سيكون على المجتمع المدني في ليبيا وعلى الفعاليات الاجتماعية في المنطقة الشرقية، وخاصة في مدينة درنة، الانتباه لأي محاولة للعبث بالأموال التي سترصد لجبر الأضرار وإعادة الإعمار في المناطق المنكوبة. فالثقة بالسلطات القائمة تكاد تكون منعدمة، والمسؤولون الحاليون لم يثبتوا خلال السنوات الماضية أنهم نزهاء بالشكل الذي يجعل الشعب يأتمنهم على مقدراته أو على الصرف السليم للأموال المرصودة لتجاوز مخلفات الفاجعة.

قبل أيام، تم الإعلان عن اتجاه مصرف ليبيا المركزي لتنفيذ قرار مجلس النواب بصرف 10 مليارات دينار (2.6 مليار دولار) ميزانية طوارئ لتغطية احتياجات ما خلفته فاجعة 11 سبتمبر، ومنها تكاليف مواد صحية وطبية وصيانة البنية التحتية، وتخصيص مبلغ بقيمة 4 مليارات دينار من هذا المشروع لتعويض وجبر الضرر، كما ظهرت بوادر الحصول على مساعدات دولية، وهو ما أسال لعاب أغلب الأطراف الفاعلة التي ستحاول الاستفادة من المبالغ المذكورة من خلال الحصول على العمولات وتضخيم الحسابات والاستناد إلى البنود الوهمية في نهب المال العام.

ولعل الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا عبدالله باتيلي، لم يجانب الصواب، عندما أكد على أهمية الشفافية والمساءلة في إدارة الأزمة شرق ليبيا، وعلى ضرورة الرقابة السليمة على المخصصات المالية لضمان وصول المساعدات إلى الأشخاص المستحقين، واستخدام المواد بشكل ملائم في إعادة إعمار جميع المناطق المتضررة. هو يعلم جيدا حجم الفساد داخل مؤسسات الدولة، ولديه معرفة من خلال تقارير معلنة وأخرى سرية للخبراء الأمميين، بأن لذلك الفساد امتدادات داخلية وخارجية. وصولا إلى أن ما حدث في درنة مؤخرا كان نتاجا للأعمال والتقصير من قبل فاعلين أساسيين لا يزالون يحظون بغطاء دولي.

كان يمكن لباتيلي أن يتطرق إلى إمكانية إحداث رقابة دولية على صرف الأموال المرصودة، لاسيما أن كل تقارير الأمم المتحدة سبق وأن تحدثت عن العبث بالمال العام في بلد يوجد ضمن الدول العشر الأكثر فسادا في العالم وفق مؤشرات الشفافية للعام 2023، ورغم ثرواته الطائلة عجزت سلطاته عن صيانة سدين متهالكين أدى انفجارهما إلى كارثة غير مسبوقة.

لقد أثبتت التجارب السابقة أن الجانب الأكبر من الأموال المرصودة، يذهب إلى جيوب اللصوص، كما حدث في ملف كورونا مثلا. فقد تم حبس وزير الصحة على ذمة التحقيق في عدد من الاتهامات الموجهة إليه، من بينها القيام بأعمال توريد وحدات إنتاج الأوكسجين بنسبة زيادة في السعر وصلت إلى 1000 في المئة، والتعاقد بطريق التكليف المباشر مع شركة أسست بتاريخ أغسطس 2021، على الرغم من عدم توافرها على الملاءمة المالية والخبرة الكافية لتنفيذ الأعمال المتعاقد عليها.

أكثر من نصف المبلغ المخصص لمواجهة جائحة كورونا ذهب إلى جيوب القطط السمان، والأمر ذاته ينطبق على بقية المجالات. واللافت أن الجهات المسؤولة تعمل على تضخيم المبالغ لضمان توزيع للغنائم يليق بكبار المسؤولين. من 2011 إلى الآن، تم صرف ما لا يقل عن 400 مليار دولار من قبل الحكومات المتعاقبة، دون أن يكون لذلك أي أثر على البنية التحتية أو على معيشة عامة الشعب، هناك فقط حيتان كبيرة تسيطر على الأسواق، ومعالم البذخ تبدو واضحة في المنطقة الخضراء بطرابلس. قبل سنوات استغرب المبعوث الأممي آنذاك غسان سلامة من أن ليبيا تشهد ميلاد مليونير جديد صباح كل يوم.

مساعدته التي حلت مكانه في المنصب بعد استقالته في مارس 2020، ستيفاني وليامز، أشارت بوضوح إلى أن ثمة “فسادا فظيعا وسوء إدارة في جميع أنحاء ليبيا”، وتابعت أن “هناك جهات محلية تنخرط في فساد مستشر واستغلال للمناصب لتحقيق منافع شخصية”. هذا يعني أن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي يدركان حجم الفساد في ليبيا، ومع ذلك يواصلان التعامل مع الفاسدين بمنحهم الشرعية الفاسدة بدورها. لا أحد يمكن أن ينفي الفساد على المجتمع الدولي ذاته، أو على من يحاربون الفساد في بلدانهم ويمارسونه في الدول المنكوبة مثل ليبيا وقبلها العراق.

قبل 2011 لم تكن البلاد تخلو من الفساد. بل كانت تتعامل معه كأمر واقع. في يناير 2017، كشف الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، عن بعض جوانب الفساد في ليبيا قبل 2011، قال إن معمر القذافي اتصل به بعد رفع الحظر عن بلاده طالبا المساعدة في بناء مدينة مثل دبي في ليبيا، وأضاف “وافقت على الطلب الليبي وأرسلت وفدا متخصصا عاين المكان المستهدف، اجتمع أفراده بالقذافي في خيمته وعرضوا عليه المشروع المقترح الذي كان يتضمن أسواقا مالية وأسواقا تجارية ومناطق تسوق وجامعات ومدارس ومستشفيات، لكن البطء القاتل في اتخاذ القرار والتنفيذ وتنافس اللجان والأجهزة ونذر الفساد كلها عوامل دفعت الوفد الإماراتي إلى الانسحاب، فغاب مشروع كان يمكن أن يجنب ليبيا مصيرها الحالي القاتم”.

وأضاف حاكم دبي “لو تم تنفيذ هذا المشروع لظهرت مدينة اقتصادية لأفريقيا في ليبيا ولكان وضع ليبيا اليوم أفضل”.

وهذا الكلام صحيح، لكن الفساد كان عاما، وكان على أي شركة قادمة لتنفيذ مشاريع في البلاد أن تستعد لتقاسم الأموال المرصودة مع أصحاب القرار والموظفين بحسب درجات نفوذهم.

مع بداية أحداث 2011، سرعان ما انضم أبرز لصوص المال العام إلى القوى الساعية إلى الإطاحة بنظام القذافي. عندما قام طيران الناتو بقصف مقر الرقابة الإدارية في طرابلس كان الهدف إتلاف ملفات التحقيق في جرائم الفساد. لقد أعطت القطط السمان الإحداثيات للتحالف الدولي بهدف القضاء على ما يمكن أن يدينها. خلال الفوضى التي أطاحت بالنظام جرى نهب ثروات طائلة ليس فقط من قبل المسلحين، ولكن كذلك من قبل من كان يقف وراءهم. هناك اليوم من يمتلكون شركات كبرى واستثمارات عابرة للحدود وجنسيات مزدوجة وأرصدة ضخمة في عواصم إقليمية ودولية بعد أن كانوا في السجون أو يمارسون حرفا بسيطة في عهد القذافي.

مؤخرا، تم الكشف عن المئات من ملفات الفساد في مختلف المجالات، ودفع مكتب النائب العام بعدد كبير من مسؤولي الصف الثالث والرابع إلى سجون الاحتجاز، لكن لا أحد استطاع الاقتراب من كبار المسؤولين الذين تداولوا على السلطة أو الذين لا يزالون في مواقع القرار. البعض يفسّر ذلك بأن المسؤولين الكبار عادة ما يحتكمون على حصانة من المجتمع الدولي نظير الخدمات التي قدموها أو لا يزالون يقدمونها للدول الكبرى. والوضع يزداد بؤسا عندما ندرك أن اللصوص عادة ما يكونون أقدر على تحقيق أهدافهم بالوصول إلى أعلى مستويات النفوذ ويعدون بالمحافظة على المال العام والتصدي لشبكات الفساد.

عندما خرج متظاهرون في مدينة درنة للتعبير عن غضبهم من أداء السلطات، ورفعوا شعارات ضد مجلس النواب ورئيسه، فهم يدركون أن ذلك المجلس من المفترض أنه يمارس دوره الرقابي من تسع سنوات، ومقره موجود في مدينة طبرق التي لا تبعد عن درنة أكثر من 170 كلم، ورئيسه عقيلة صالح له علاقات قريبة ببعض مسؤولي المجلس البلدي. ومن الجوانب الأخرى هناك مجلس الدولة الذي يعود انتخاب أعضائه إلى العام 2012، وهناك حكومة كان يجب أن تتحمل مسؤولياتها كاملة في اتخاذ كل ما يلزم من تدابير استثنائية للتخفيف من أي أضرار محتملة، كما أن المؤسسة العسكرية كان يمكن أن تستغل قوتها لإخلاء المناطق المهددة بالفيضان، خصوصا وأن جهاز الهندسة كانت لديه معطيات كافية عن الوضع الذي كان عليه السدان الرئيسيان بالمدينة.

لم يحدث أن استقال مسؤول من منصبه، أو اعتذر عن أي إهمال أو تقصير، ولم يحدث أن أعلن أي طرف من الأطراف الأساسية عن مسؤوليته السياسية أو الأخلاقية عن فاجعة درنة. كل الأطراف تحاول الاستفادة من الوقت في تجاوز الحرج نحو الاستفادة من الكارثة من منطلق “رب ضارة نافعة”. وأول مراتب الاستفادة العبث بالمال العام.

هناك حقيقة تفرض نفسها اليوم، وهي أن الليبيين لا يثقون بأيّ من مسؤوليهم سواء في غرب البلاد أو شرقها. هم يعلمون جيدا أن لا شيء يتم بانتظام سوى نهب المال العام، وأن الصراع الحقيقي القائم في البلاد هو صراع على الثروة بأبعاد داخلية وخارجية، ومرتبط بحسابات ومصالح أسرية وفئوية وقبلية ومناطقية، ولديهم قناعة تامة بأن كل مبلغ مالي يرصد لهذا المشروع أو ذاك، يتم التلاعب به ونهب جزء مهم منه. حتى ولو كان ذلك المشروع يتعلق بإعادة إعمار درنة أو بجبر أضرار المنكوبين بفعل كارثة فيضانات السدود.

سيكون على الناشطين في المجتمع المدني في ليبيا وعلى الفعاليات الاجتماعية في المنطقة الشرقية وكامل أرجاء البلاد، أن ينتبهوا جيدا للأموال التي سيتم صرفها، وأن يتابعوا تحركات الفاسدين من كافة المواقع وعلى جميع المستويات، فالتحالف بين اللصوص المحليين والأجانب كالتحالف بين لصوص شرق البلاد وغربها، سيعمل على نهب النسبة الأكبر من المبالغ المرصودة، وتحويل طريقها من حساب مستحقيها إلى حساب ناهبيها.