حتى تاريخه، الجميع خاسرون باستثناء إيران!

إسرائيل فقدت "هيبتها العسكريّة" منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، بعد عمليّة "حماس" النوعيّة في غلاف غزّة. الفلسطينيون، ولا سيّما أبناء غزّة، لا ينزفون دماءهم فقط بل آخر ما كان قد تبقى لديهم بعد من مقوّمات الحياة. الأميركيون ومعهم الأوروبيّون تنهار سمعتهم في العالمين العربي والإسلامي بفعل تأييدهم الكبير لحق إسرائيل بالقضاء على "حماس". "دول الاعتدال العربي" تدافع عن نفسها، بما أمكنها، لرد تهمة "التواطؤ الضمني" مع إسرائيل الذي تشيعه ضدّها آلة دعائيّة ضخمة. المملكة العربية السعوديّة تتلقى، من خلال مقرّبين من "الحرس الثوري الإيراني"، تهديدات بفتح أبواب الجحيم اليمني ضدّها "انتقامًا لغزّة وعقابًا لها على محاولة التطبيع". قطر التي تعتبر مرجعيّة لا بد منها في موضوع الأسرى الذين "توفّقت" بهم "حماس" تتعرّض لحملة سياسيّة وإعلاميّة كبرى، على أساس أنّها "تحتضن الإرهاب" بسبب وجود قيادة "حماس" السياسيّة في الدوحة. سوريا، أساسًا خارج حساب الخسارة والربح. لبنان بدل أن يجهد لإنقاذ نفسه من الكارثة التي لحقت به، منذ عام 2019، يجد نفسه يدفع ثمن حرب "تلاحم الساحات" التي فتحها "حزب الله" في الجنوب وكبّدته حتى الآن عشرات الشهداء.

وحدها إيران تظهر، حتى تاريخه، "رابحة"، فهي، منذ بدء "طوفان الأقصى"، تحتل موقعًا متقدّمًا في قائمة اللاعبين الأساسيّين في المنطقة. في البداية توهّم عتاة خصومها أنّها سوف تدفع ثمن عمليّة "حماس"، ولكنّها سرعان ما بدا أنّها تقطف ثمارها. الجميع يخشون إيران، فهي تُمسك الآن بناصية القرار الكبير، فوحدها تملك القدرة على تحويل الحرب الإسرائيلية ضد غزّة إلى حرب إقليميّة كبرى. "محور المقاومة" التي بذلت الغالي والنفيس من أجل إنشائه وتقويته وتسليحه وتصليبه، تبيّن أنّه أنجح "استثماراتها" على الإطلاق. وبتكليف منها، تخرج صورايخ "حزب الله" و"الحوثيّين" والعراقيين والسوريّين من "مخازنها السريّة" وتضرب، بالتناغم مع "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، بالآلاف إسرائيل والقوات الأميركية في المنطقة وحلفائها العرب. وبقرار منها تنفتح الحدود التي تربط قم في إيران ببوّابة فاطمة في جنوب لبنان ويتدفق المقاتلون من كل حدب وصوب لبسط همينة كاملة على الدول الساقطة سياسيًّا تحت هيمنة محورها!

وخشية من تفعيل هذا التكليف، يجهد الجميع، يتقدمهم الأميركيّون، لإرضاء إيران، بحيث لم تجرِ تبرئتها من عمليّة غلاف غزّة فحسب، بل تمّ تفعيل قنوات التواصل التقليديّة معها الموجودة في قطر والعراق وعُمان، أيضًا!

وإيران "تاجر" بارع. حتى تاريخه لم تحصل على الثمن الذي تتطلّع إليه. هي ترفع قيمته إلى مستوى غير معقول، حتى تحصل على الثمن الحقيقي.

حتى تاريخه، تطلب إيران أن تُعلن إسرائيل هزيمتها، وتوقف مخطط الهجوم على قطاع غزّة. وهي، بالإضافة إلى الأوراق التي تملكها للضغط من أجل ذلك، حصلت على أوراق إضافيّة، بفعل انتفاضة الوجدان الشعبي العالمي الذي لا يمكنه أن يتحمّل قوّة إسرائيل الناريّة العاتية ضد سكان قطاع غزّة الذين يتساقطون بالمئات يوميًّا.

الولايات المتحدة الأميركية تأخذ العرض الإيراني على محمل الجد وتضعه على طاولة المقايضة، حتى تجعله مقبولًا! وهذا ما يُترجم ضغوط الإدارة الأميركيّة على الحكومة الإسرائيليّة، من أجل تأجيل العمليّة البريّة ضد قطاع غزّة، مقدّمة الملف الإنساني إلى الواجهة.

هذا هو الواقع حتى تاريخه، ولكن هل يتم تكريسه في الآتي من الأيّام؟

نظريًّا هذا صعب، ولكنّه غير مستحيل!

صعوبة السماح لإيران بالخروج منتصرة من هذه الحرب تظهر في أنّ الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل معًا تكسبان الوقت، من أجل تحضير العدّة لاحتواء التهديدات الإيرانيّة ميدانيًّا.

وفيما تعمل الاستخبارات الإسرائيليّة على وضع خطة "غير انفعاليّة" لاجتياح غزّة التي هي ميدان معقّد عسكريًّا، تستكمل وزارة الدفاع الأميركيّة تجهيز وحداتها في الشرق الأوسط والخليج لتكون قادرة على التفاعل مع التهديدات في حال حصولها.

إنّ الإشارات الآتية من الميدان تشجّع على إحباط "الحلم الإيراني".

على الجبهة اللبنانيّة لا يتكبّد "حزب الله" خسائر بشريّة فادحة تُظهر الاستعداد الجيّد للقوات الإسرائيليّة المرابطة على الحدود مع لبنان فحسب، بل هو بدأ أيضًا يتلمّس مقاومة شعبيّة كبيرة ضد توريط البلاد بحرب لا تملك مقوّمات الصمود الواجبة.

وعلى جبهة غزّة، يتحصّن الجيش الإسرائيلي بأغلى ما يحتاجه، أي الاستعداد الداخلي لتحمل خسائر بشريّة فادحة، وسط بدء المستوى السياسي، باستثناء بنيامين نتنياهو، بإعلان استعداده لتحمّل مسؤوليّة ما حصل في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الجاري. وعلى المستوى الدبلوماسي، تحظى إسرائيل بغطاء دولي كبير للقيام بما عليها القيام به.

وفي الجبهة الداخليّة، لم تستطع بعد الضفة الغربيّة القيام بما هو مطلوب منها، فالعمليّات الإسرائيليّة الحاليّة والسابقة مكّنتها من تخفيف الأضرار إلى حد مقبول حتى الساعة، فيما يصف الإسرائيليّون سلوك "مواطنيهم" العرب بالنموذجي!

في هذا الوقت، قدّمت الوحدات الأميركيّة نماذج مهمّة عن قدرتها على "احتواء" الضربات البعيدة المدى نسبيًّا، مثل تصديها لصلية صاروخيّة تحتوي على 19 صاورخًا، أطلقها، الأسبوع الماضي، حوثيّو اليمن نحو إسرائيل، وفق تصريحات صدرت الأحد عن مسؤوليهم، فيما يستمر تدفُّق القوات الأميركية إلى المنطقة. حاملة الطائرات الثانية، آيزنهاور، ومجموعتها الهجومية ستصل في نهاية الأسبوع المقبل (يبدو أن هدفها هو الخليج). الأميركيون نشروا أيضًا أسراب طائرات مقاتلة في الأردن، في وقت أقيم الجسر الجوي الذي بدأ بتزويد إسرائيل بالأسلحة وقطع الغيار.

لكنّ كلّ ذلك لا يعني أنّ الولايات المتحدة الأميركية إذا وصلت إلى تفاهم مع إيران على ثمن معقول سوف تختار مواجهتها، خصوصًا أنّ "حلفاءها العرب" يُبدون، حتى تاريخه، ترددًا في تحمّل قسطهم من المواجهة المصيريّة التي من شأنها إعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة، فهم، عن قصد أو عن عجز، يتقاطعون في أدبياتهم الغزّوية مع إيران!

إنّ المأزق الحالي الذي يفتش الجميع عن حلول له يتمحور حول الإشكاليّة الآتيّة: إسرائيل يستحيل أن تقبل بالخروج خاسرة من هذه الحرب التي تُعتبر بالنسبة إليها "وجوديّة"، وإيران يصعب أن تقبل بخسارة "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، لأنّ ذلك يمهّد لتقويض نفوذ محورها في المنطقة ككل!