من خلف شاشة التلفزيون، ومع خلفية ظهر فيها نساء وأطفال ينتحبون أقارب لهم وأعزاء اختطفهم الموت بمداهمة صاروخ إسرائيلي في غفلة وهم لربما لم ينتهوا بعد من عدّ مفقوديهم في محيطهم ومعرفة الأموات منهم والأحياء، صورة تختصر مشهد الموت الفلسطيني الجماعي اليومي الذي تقترفه إسرائيل في غزة ويغترف منه اليمين الإسرائيلي المتطرف قوة يستمدها مما يخلفه من الأيتام والأرامل والمشردين في العراء والمتضورين جوعًا لنفاد الزاد، أطلقت امرأة مكلومة نداءً إلى الدول العربية اخترق الأفاق ليصل إلى أذن كل ابن حواء ناطق بالعربية وغير ناطق بها ويشده وجدانيًا شدًا إلى قلب الحدث المأساوي على أرض غزة، تطالب فيه هذه المرأة العربية الحكومات العربية جميعها بضرورة التدخل لوقف العقاب الجماعي الذي يواجهه الفلسطينيون من قوات الجيش الإسرائيلي المحتل. المشهد مؤثر ويعرض في وضوح مؤذٍ وفي عجالة حجم المأساة اليومية التي يتعرض لها الفلسطينيون.

المرأة تطلق بأعلى صوتها من خلال مراسل إحدى القنوات التلفزيونية نداء إلى الدول العربية، وليس لإيران ولا لحركة حماس ولا لـ«حزب الله» تقول فيه «احكي لكل الدول العربية أهلي ماتوا.. أهلي ما ظلش حد فيهم عايش.. بدنا ننهي الحرب.. احكي لهم ينهوها». ويبدو حتى اللحظة أن نداء المرأة المكلومة بفقدان أمها وجدها وإخوانها وأخواتها وسيدها وسيدتها وأعمامها كما قالت هي بصوت يفطر القلب فقدًا وقهرًا على الممارسات الإسرائيلية اللاإنسانية، يأتي صرخة في وادٍ وما من صدى. تقول المرأة بحالة من الغضب والرضى بقضاء الله وقدره وبالحالة التي وجدت نفسها ومن معها محشورين فيها في حرب غير متكافئة خططت حماس لبدايتها -ويبدو أنها لم تُخطط لما بعد البداية أو لنهايتها- وجلبت الموت والدمار: «لم يبقَ لي أحد إلا أبي، الله يخليه وابني». لا شك أن مثل هذا النداء المليء باليأس ستجده حتمًا على لسان كل امرأة فلسطينية في غزة كُلمت في قريب أو حليل أو ابن أو حبيبة وحبيبة أو جارة وجار، ولكن أصحاب القرار في داخل غزة والمقيم بعضهم في فنادق الدوحة لا يسمعونه، أو بالأحرى لا يريدون سماعه. هذا النداء لا يجعلك تتمنى إلا أن تحقق حماس النصر للفلسطينيين عسى أن يكون للدماء والدموع معنى، لكن الأمر هنا لا يتعلق بالأماني بالقدر الذي يتعلق بميزان قوى المتحاربين. والحقيقة أن ثمة سؤال وجدته يشاغل أمنيتي هذه وهو ما حجم الإنجاز الذي تعده حركة حماس انتصارًا وتقف عنده، وهبّ أن توافق الحمساويون على حجم هذا الإنجاز، فهل توافق عليه إيران وهي الراعية والمسلحة والمخطِطة؟ الحرب في خيار المقاومة لا تنتهي.

من الطبيعي جدًا أن تستنجد هذه المرأة المكلومة بالعرب فهم عزوتها وظهرها وهم السند رغمًا عن إيران وكل محور المقاومة، لكن العرب اليوم لا حول لهم ولا قوة. فالعرب اليوم يتحاسدون، يتباغضون، يخون بعضهم بعضًا، يبحثون عن نصراء لهم خارج الإطار العربي. إنهم مشغولون بـ«البناء الطائفي والمذهبي» ليتسع هذا البناء لمزيد من الكراهية والبغضاء. وهذا الأمر تدركه قيادات حماس التي تُعد واحدة من الأسباب التي جعلت القوم شتاتًا بعد ارتهانها للإيراني إلى حد جعل إسماعيل هنيّة -المقيم ناعمًا سليمًا معافى مرفهًا آمنًا في قطر- يُطلق على قاتل العرب وزارع الانقسام في دولهم قاسم سليماني لقب «شهيد القدس».

صرخة هذه المرأة تُذكر بصرخة المرأة العربية -رغم اختلاف الروايات حول صحتها- التي استنجدت بالمعتصم ونادته «وا معتصماه!»، بعد تعرضها للأذى، فهب لنجدتها. ولعل صرخة «وا معتصماه» هذه كانت سببًا من أسباب فتح عمورية. فما الذي يمكن أن يؤدي له نداء هذه المرأة العربية التي لم يتبقَ لها من عائلتها الصغيرة والكبيرة إلا أب وابن. لم يبقَ لها إلا قولنا: «لا حول ولا قوة إلا باللّه».

بعض التحليلات، بل وحتى الأخبار الواردة من داخل جسم حركة حماس، تفيد أن إيران هي من أوعزت لحركة حماس بالبدء في عمليتها العسكرية المباغتة مع وعد بالتدخل عسكريًا لنصرتها. وها هي اليوم وعلى لسان المتحدث باسم مكتب الرئيس الإيراني تقر وتعترف بالقول: «إن إسرائيل تتجاوز جميع الخطوط الحمراء». ونحن نقول لكم، لا شيء ينبئ بأي ردة فعل تجاه تجاوز خطوطكم الحمراء هذه. لا أظن أن عربيًا واحدًا غير أولك السائرين في ركب ما يسمى بمحور المقاومة يطمع في تدخلكم ولا يريده أيضًا، ولكن كفى متاجرة بمشاعر العرب والمسلمين. والسؤال الذي ينبغي أن يستوقف العربي اليوم لما يجري في غزة هو «لماذا تجبر حماس ومحور المقاومة ككل الشعب العربي على لبس الأكفان والسير خلفها وهي التي لديها حكومات شرعية تعبر عن إرادتها؟».

لا يبدو أن الحرب ستتوقف في القريب العاجل، ولكن الأكيد أن كثيرًا من هذه النداءات ستقض مضاجع من يملكون حسًا إنسانيًا، وكل الذي نرجوه اليوم هو أن تتكاتف الدول العربية ودول العالم والضمائر الإنسانية الحية في تقديم الدعم المادي للفلسطينيين ليقاوموا الجوع والتشريد المفروض عليهم من الخارج والداخل عسى أن يخففوا معاناة تتضاعف ساعة بعد ساعة.