حلت الأخطار الجيوسياسية المرتبطة بالأزمة في الشرق الأوسط الآن محل أساسيات السوق الكلاسيكية، وأصبحت عاملا رئيسا مهيمنا على سياسات كبار اللاعبين في أسواق النفط. هذه الاتجاهات تجعل من الصعب التنبؤ بمستقبل صناعة النفط والغاز وسلاسل التوريد والخدمات اللوجستية والعمليات الأخرى المرتبطة بالصناعة. حتى الآن، ظلت أسعار النفط تحت السيطرة نسبيا، وظل الشحن مستقرا عند الحد الأعلى للتكلفة.
لكن، الوضع قد يتغير جذريا إذا امتدت الأزمة إلى مناطق طرق الإمداد البحرية الرئيسة لموارد الطاقة. إن تكلفة مثل هذا التحول ستكون كبيرة، ما يعرض مستقبل الاقتصاد العالمي وأسواق النفط للخطر.
في هذا الجانب، نشر البنك الدولي الأسبوع الماضي دراسة حاول فيها تقييم التأثير المحتمل للأزمة في الشرق الأوسط على أسعار النفط. رغم أن السيناريو الأساسي للبنك يفترض بقاء أسعار النفط إلى حد ما عند مستوياتها الحالية، إلا أنه نظر أيضا في سيناريوهات أخرى، بما في ذلك السيناريو الذي تراوح فيه أسعار خام برنت بين 140 و157 دولارا للبرميل.
منذ بداية أكتوبر، تتابع أسواق النفط من كثب تطورات الأزمة في الشرق الأوسط. على مدى الشهرين الماضيين أو نحو ذلك، شهدت أسواق النفط الخام تقلبات عالية، التي تفاقمت بسبب اشتداد هذه الأزمة. ويخشى المستثمرون من أن ينتشر الصراع إلى الدول المجاورة خصوصا تلك المنتجة للنفط. وبالتالي سيكون لذلك تأثير في إنتاج النفط وسيدفع الأسعار إلى الارتفاع في سوق تعاني بالفعل نقص العرض. وتقدر "أوبك" هذا العجز بنحو ثلاثة ملايين برميل يوميا للربع الرابع بأكمله. والموضوع مثير للقلق إلى حد أن البنك الدولي خصص تقريرا خاصا للتأثير المحتمل لهذه الأزمة في أسعار النفط، وعلى نطاق أوسع في أسعار السلع الأساسية. وفي ظل عدم اليقين بشأن حجم هذه الأزمة، وضع البنك أربعة سيناريوهات، بما في ذلك السيناريو "الكارثي". ويشير البنك الدولي إلى أن هذه الأزمة، حتى الآن، لم يكن لها سوى تأثير محدود في السلع الأساسية.
السيناريو الأساسي، الذي يعطي له البنك احتمالية أكبر، لا يتنبأ بأن الوضع سيتغير. ويفترض البنك الدولي أن الأزمة لن تتسع، وبالتالي سيكون لها تأثيرات محدودة في أسعار النفط. ومن المتوقع أن يظل سعر خام برنت، حول 90 دولارا للبرميل في الربع الرابع من 2023 (الربع الحالي) قبل أن يتراجع إلى 81 دولارا في العام المقبل. ولكن ماذا لو بدأت هذه الأزمة بالتصاعد وبالتالي تعطلت بعض إمدادات النفط؟ في هذ الجانب حدد البنك الدولي ثلاثة سيناريوهات.
تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه السيناريوهات لا تتكهن بالمحفزات المحتملة لتصعيد الأزمة وما يترتب على ذلك من انقطاع الإمدادات، لأن الوضع غير مستقر والأحداث الجيوسياسية السابقة كانت ناجمة عن عوامل مختلفة. ومع ذلك، هذه السيناريوهات تأخذ في الحسبان أوجه التشابه مع اضطرابات الإمدادات السابقة لأسباب جيوسياسية.
في سيناريو "الاضطراب البسيط"، حيث ستنخفض إمدادات النفط العالمية بمقدار 500 ألف إلى مليوني برميل يوميا، سترتفع أسعار برنت بنسبة تراوح بين 3 و13 في المائة مقارنة بمتوسط الربع الحالي - إلى نطاق 93 إلى 102 دولار للبرميل. وهذه الأسعار المرتفعة نسبيا أصبحت شائعة في الأعوام الأخيرة. ويصبح كل شيء أكثر تعقيدا مع سيناريو "التعطيل المتوسط"، حيث سينخفض العرض بمقدار ثلاثة إلى خمسة ملايين برميل يوميا، أي 3 إلى 5 في المائة من الإنتاج العالمي. في هذا السيناريو، ستقفز أسعار برنت بنسية تراوح بين 21 و35 في المائة - إلى ما بين 109 و121 دولارا للبرميل في الربع الأخير من هذا العام.
وفي سيناريو "التعطيل الكبير" من المفترض أن تتحول الأزمة إلى صراع إقليمي يؤثر بشدة في إمدادات النفط. ستنخفض إمدادات النفط العالمية بمقدار ستة إلى ثمانية ملايين برميل يوميا، ما سيدفع الأسعار للارتفاع بنسبة 56 إلى 75 في المائة - إلى ما بين 140 و157 دولارا للبرميل. وإذا تصاعدت الأزمة، يتوقع البنك أن يواجه الاقتصاد العالمي صدمة طاقة مزدوجة للمرة الأولى منذ عقود، ليس فقط من الأزمة الأوكرانية ولكن أيضا من الأزمة في الشرق الأوسط. تجدر الإشارة هنا إلى أن البنك الدولي لا يعلق على مدة الاضطرابات أو آثارها في السوق.
في الواقع، عادة ما يكون للصراعات في الدول المنتجة للنفط تأثير قصير نسبيا. في هذا الجانب، قال البنك الدولي إن الحرب بين إيران والعراق 1980 لم تؤد إلا إلى ارتفاع "وجيز" في الأسعار. وعلى نحو مماثل، كان ارتفاع الأسعار أثناء حرب الخليج الأولى قصير الأمد. علاوة على ذلك، هذه السيناريوهات التي وضعها البنك الدولي تستند إلى سوابق. لكنها لا تأخذ في الحسبان العوامل الخارجية الأخرى. ويعترف البنك الدولي نفسه بأن هذه التأثيرات قد يتم تخفيفها من خلال قرارات" أوبك+" لزيادة الإنتاج، أو من خلال إطلاق الولايات المتحدة للاحتياطيات الاستراتيجية. وبغض النظر عن هذه الأخطار، إلا أن أسعار النفط قد تنخفض، بسبب انخفاض الطلب من الصين، وهو ما قد يكون جزءا من تباطؤ أوسع في النشاط الاقتصادي العالمي.
في الوقت الحالي، من الواضح أن الأزمة في الشرق الأوسط تتماشى مع السيناريو الأساسي للبنك الدولي الذي يفترض عدم حدوث أي تأثير في الإنتاج. بالفعل، بعد الارتفاع الحاد، تراجعت أسعار النفط إلى مستويات معتدلة، حيث وصل سعر خام برنت في نهاية الأسبوع الماضي إلى ما يقل قليلا عن 85 دولارا للبرميل. ومع ذلك، من المرجح أن تستغرق الأزمة بعض الوقت، ولا يزال خطر امتداد الصراع قائما. ولذلك يعتقد المحللون أن بعض علاوة الأخطار من المرجح أن تستمر في الأسابيع المقبلة، الأمر الذي من شأنه أن يمنع أسعار النفط من الانخفاض أكثر على المدى القريب.
التعليقات