لن أكون منصفا إن قلت إن السويد ليست التي أعرفها قبل نحو ثلاثة عقود من الزمن عندما حطت رحالي فيها. لقد تغير الكثير فيها شأنها شأن الطقس.
عند مقدمي، كان الشتاء قاسيا وقارسا. كانت تتراكم جبال من الثلج في مدينتنا، وأتذكر كيف كان بعض المجازفين يقودون سياراتهم على سطح البحيرة المتجمدة أمام بيتنا في درجات حرارة مئوية قد تصل إلى أكثر من 20 تحت الصفر.
هذا كان في الماضي. لم تعد السويد تشهد طقسا متجمدا بهذا الشكل. الارتفاع الملحوظ في درجات الحرارة جعل كثيرا من الناس ينتظرون هطول الثلوج بفارغ الصبر وقد يمضي شتاء دون بياض الأرض، ما يزيد من وطأة الظلام القاسي وغياب الضوء والشمس.
إن أخذنا بنظرية أن ثقافة الشعوب وما يرافقها من أطر اجتماعية ونظم تراثية وتعابير لغوية وطقوس وفنون تتأثر بالمناخ والبيئة التي تنشأ فيها، فإن النظرية لها من الأدلة الكثير إن أخذنا ما حدث وحل بالمجتمع السويدي في غضون فترة لا تتجاوز عقودا ثلاثة.
قبل نحو 30 عاما، كان العالم ينظر إلى السويد كأنها جنة الله على الأرض. ولم يكن الرخاء المادي ما يجذب الدنيا إليها، بل كانت القيم الإنسانية التي يعمل الناس والنقابات والأحزاب والحكومات على تبنيها وترجمتها على أرض الواقع.
إن أعدنا ذاكرتنا إلى الستينيات رأينا أن مكانة هذا البلد من حيث البعد الإنساني كانت أسمى ما يكون. السويد كانت دولة محايدة، لكن حيادها إيجابي، أي لا تقف مع الظلم والاضطهاد والاحتلال ومثيري الفتن والحروب.
فكانت السويد تملك من الجرأة في مقارعة الظلم حتى إن أتى من أعتى الظالمين. كانت السويد سباقة في انتقاد الحرب في فيتنام وأول مظاهرات كبيرة خرجت في أوروبا ضد الحرب وعلى وقع أناشيد وموسيقى خاصة كان مسرحها السويد، وبعدها تشجعت الشعوب في دول أوروبية أخرى في التظاهر ضد الحرب حتى وصل تأثيرها إلى الولايات المتحدة.
كانت للسويد مواقف إيجابية ـ نسبة إلى الدول الغربية الأخرى ـ من الصراع في فلسطين ـ ومن تجربتي كأستاذ جامعي كنت أندهش للكم الهائل من المعلومات التاريخية الرصينة والمثبتة بالوقائع التي يمتلكها الطلاب السويديون عن الصراع.
بيد أن تغلغل الأحزاب والمجاميع اليمينية في العقدين الأخيرين في السويد قلب كثيرا من الأمور على عقب. بعد أن كان كره الأجانب أمرا مقيتا لا يمكن حتى تخيله، صار واقعا نحسه ونعانيه.
صرنا اليوم بالكاد نميز بين ما يحدث في فرنسا مثلا من مواقف سلبية صوب قضايا الشرق الأوسط وما يحدث في السويد، لا بل إن التيار اليميني السويدي الذي فيه مسحة من الشوفينية قد يبز في مواقف الكره أقرانه الأوروبيين.
هذا الأمر لا يسري على السويد، بل يبدو أن دول شمال أوروبا، المشهود لها بعدها الإنساني، أخذت تفقد بوصلتها الإنسانية وتقف مكتوفة الأيدي أمام ما يقع من مجازر تهز أي ضمير حتى إن كان ميتا.
الوضع زاد تعقيدا بعد الأحداث الأخيرة المرعبة في الشرق الأوسط إلى درجة وصل الأمر بي شخصيا إلى التفكير مليا بتمزيق كل الكتب في مكتبي عن النزاهة والموضوعية والأمانة في نقل الأخبار، لأن الإعلام السويدي جرفه تيار الرؤية بعين واحدة لإدانة العنف الذي صدر من طرف محدد، وغلق العين الأخرى عن العنف الفظيع والانتقام غير المبرر والمسوغ الذي يقترفه الطرف الآخر.
وانساب الخوف الذي يدب في أوصال المثقفين والأكاديميين الذين يخرجون عن نسق السردية الواحدة، التي لا يجوز تغيرها إن في الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية، إلى أروقة الجامعات في السويد.
فبعد أن كانت النخبة المثقفة والأكاديمية في البلد تنظر بعينين مفتوحتين إلى الصراع في فلسطين واضعة كل حدث ضمن سياقه التاريخي، الذي لا يجوز أن يخرج عن إطار شعب تحت احتلال غاشم لنحو سبعة عقود جرى فيها مصادرة أراضيه ومياهه وقلع أشجاره وإيداع نصف أفراده السجن دون محاكمة فترات مختلفة تحت قوانين كانت سائدة في عهد الاستعمار البريطاني.
كان لا بد من هزة تعيد بعض الرشد للمؤسسة السويدية التي يبدو أنها أخذت رويدا رويدا تبتعد عن البعد الإنساني السليم الذي كان السمة الغالبة للتاريخ السويدي المعاصر.
يبدو أن هناك بصيصا من الأمل، وهذا ما لاحظته وأنا أشاهد من شاشة جهازي الرقمي مظاهرة ضخمة في استكهولم عاصمة السويد في إدانة واضحة للقتل الجماعي للأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين في حملة انتقام يغلبها الجنون، حيث شارك عشرات الآلاف من المتظاهرين في ترديد نشيد سويدي لنصرة شعب غزة وشعب فلسطين.
كما كانت الحال في الستينيات حيث انتقل الموقف السويدي المناهض للحرب في فيتنام من خلال التظاهر والفن والإنشاد، لاحظت أن النشيد السويدي المخصص للدفاع عن فلسطين صارت تردده الجموع في تظاهرات حاشدة في مناطق أخرى من أوروبا والعالم.
هل ستستعيد السويد بعهدها الإنساني؟ هذا ما أتمناه، لكن ما كل ما نتمناه ندركه.
التعليقات