كثيرا ما نلجأ إلى التلطيف اللغوي، وهو ما نطلق عليه بالإنجليزية euphemism عند الحديث أم الكتابة. والتلطيف اللغوي وسيلة خطابية حميدة يمارسها الشعراء والكتاب الماهرون، إذ يبلغون بفحوى الكلام وما تكتمه الصدور مثلا من خلال التورية. والناس عامة تحبذ التلطيف اللغوي لما تتضمن أطره من الكياسة وسمو الخلق.

بمعنى آخر، إن أتقنا خاصية التلطيف اللغوي صار في إمكاننا تجنب ما قد يراه السامع أو القارئ من خطاب شخصاني مباشر.

الآن قد يتساءل القارئ اللبيب: ما المشكلة إذن؟ وكيف لظاهرة خطابية مثل التلطيف اللغوي تحشر فيها ممارسة غير حسنة، لا بل قبيحة وهي تكميم الأفواه.

متى تكمم الأفواه؟ من العسر تقديم إجابة شافية ومحددة لما نعنيه بتكميم الأفواه، لكن كي نختزل الأمر، نقول إن أي منع يرافق نطق أو كتابة قول ما يعد تكميما للأفواه.

وإن رافقت تكميم الأفواه عقوبات من أي نوع كانت، يتحول الأمر إلى اضطهاد. وقد يرقى تكميم الأفواه ـ أي منع قول أو كتابة شيء ما ـ إلى ما يشبه الحرب. في الحرب يقع الجنود والأبرياء صرعى الرصاص، وفي تكميم الأفواه قد يقع الناس ضحايا خطاباتهم.

لا أظن أن هناك قارئا للتاريخ القديم والمعاصر ليست لديه معلومات حول المآسي التي رافقت وترافق الكلمات أو العبارات الممنوعة التي إن قيلت أو كتبت طال قائليها أو كتابها عذاب شديد.

أن يحدث وأن يعاقب وحتى أن يقتل أمرؤ بسبب نطقه أو كتابته مفردات أو جملا محددة، فهذا لعمري ليس أمرا غريبا في التاريخ. لكن مع دخولنا عصر التمدن خصوصا في الدول الغربية صار عدم تكميم الأفواه شارة الحضارة. حرية الكلام والتعبير مؤشر مهم للرقي، تشرعنه أغلب الدساتير في العالم ويعد تحصيلا حاصلا في أوروبا وشمال أمريكا ودول كثيرة أخرى.

لكن الطبيعة البشرية التي قد لا تختلف باختلاف الجغرافية تنحى سبيلين حول حرية الكلام والتعبير، الأول، ترنو فيه إلى ما يتلاقى مع ميولها ويشيد بها. الثاني، تتجاهل وتغمط فيه نزعة الحرية في الكلام والتعبير.

هنا يأتي دور التلطيف اللغوي الذي زادت وطأته واستخداماته في الإعلام الغربي وتغطيته للحرب المجنونة الوحشية التي تشنها إسرائيل على غزة. انظر إلى التلطيف الذي يرافق قتل الأطفال الفلسطينيين بالآلاف، حيث يردد أغلب الإعلام الغربي والأغلبية الساحقة من المسؤولين السياسيين الكبار عند كل ذكر لمقتل الأطفال تقريبا أن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها، أليس هذا تلطيفا لقتل الأطفال؟

وانظر إلى تكرار سردية أن السبب وراء قتل إسرائيل أطفال غزة والدمار الهائل الذي لم يستثن حتى المستشفيات كان الهجوم الذي شنته حماس الذي أودى بحياة 1200 إسرائيلي بينهم مدنيون ونساء وأطفال.

إسرائيل تحصل على كم هائل من التلطيف اللغوي في التغطية الإخبارية إلى درجة قد يمنحها صك البراءة فيما تقترفه من فظائع في غزة حيث لا تقتل الأطفال وتدمر المستشفيات فقط، بل تفرض حصارا خانقا يمنع الماء والكهرباء والطعام والاتصالات.

هذه السردية صارت بمنزلة القانون الذي لا يجوز انتهاكه، حتى إن تعاطف البعض مع محرقة، لا بل مثرمة الأطفال في غزة.

إن لم تبدأ خطابك بإدانة حماس، فأي تعاطف مع الفلسطينيين مدان وقد يتعرض صاحبه إلى تأنيب أو ربما عقوبات تصل إلى حد الفصل من العمل. لم أقرأ مساندة حتى على مستوى مفردة واحدة لأطفال غزة إن لم ترفق بأن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، وأنi لولا ما فعلته حماس لما اقترفت إسرائيل كل هذه الفظائع.

إسرائيل تستحق، في رأيهم، قدرا لا حدود له من التلطيف اللغوي، ويجب أن يرافق سردية تغطية الحرب أي كانت.

هذا هو السياق والخلفية، بالنسبة لهم، لما نشاهده من كارثة وجريمة ضد الإنسانية تقترفها إسرائيل في غزة.

من الطرف الآخر، الفلسطينيون لا يستحقون أي تلطيف لغوي، أي لا يجوز ذكر الأسباب والسياق والخلفية التي تجعل الفلسطيني يرمي حجارة على الذي يحتل أرضه، لا بل هناك كثير من التلطيف اللغوي الذي يجعل من المحتل ضحية، والذين يرزحون تحت نير احتلاله الظالم الذي مضى عليه أكثر من خمسة عقود دون بصيص من الأمل على رفعه هم القتلة.

هذا تعريض يفتقر إلى الكياسة وأخلاق وآداب الكتابة من طرف أغلب الإعلام الغربي، حيث يلطف ما يرقى إلى جريمة إبادة من قبل إسرائيل، ويرفض تلطيف -أي إضافة السياق والخلفية- ما يقوم به الفلسطينيون من مقاومة للاحتلال الإسرائيلي.

أنصح بعدم الوثوق في الإعلام الغربي، لأن غايته التعريض والتلطيف عند تعلق الأمر بطرف من أطراف النزاع، بدلا من التصريح والإخبار الذي يضع السياق في الحسبان عند الكتابة.