لا أظن أن هناك من لم يتأثر بالأحداث المؤلمة في غزة، حيث آلة الحرب المهولة لإسرائيل تفتك بكل شيء دون تمييز إن كان طفلا أم شيخا، رجلا أم امرأة، حاملا سلاحا كي يدافع عن أرضه ووطنه أم إنسانا عاديا.
آلة الحرب هذه مدججة بأفتك الأسلحة التي توصل إليها العقل البشري، منها قنابل قد تزن أكثر من طن تلقى على عمارة سكنية وتلقيها أرضا، ومشغلوها غير عابئين إن كان في العمارة أطفال أم شيوح أم نساء.
مهما أوتي المرء من حصافة اللغة وتملك من ناصية بيانها لن يفلح أن يصور الكارثة ـ لا بل الجريمة ضد الإنسانية ـ التي تقترف بحق أكثر من مليوني فلسطيني في غزة ـ مثلما تصوره لنا اللقطات والصور المتحركة والثابتة التي صارت الشغل الشاغل لدينا لنحو 50 يوما حتى الآن. وشخصيا أتابع الحرب ليل نهار ولا أتوقع أن يؤثر كثيرا مقال إضافي أسطره عنها.
لكن منذ أن بدأت الطائرات والمدافع والدبابات الإسرائيلية تقذف بحممها على قطاع غزة وأخذ السكان بالهرب بعضهم تاركا أشلاء عائلته في الركام الذي يخلفه القصف الهمجي، وآخرون يلملمون جراحهم حاملين كيسا من الأمتعة وهم يولون الأدبار إلى حيث لا يدرون، جذبتني سردية أجزم بأنا لن نلقى مثلها في أي صراع دموي مثل هذا في العالم، لا بل ربما في التاريخ برمته.
نحن هنا لا نتحدث عن حرب بين جيشين نظاميين. نحن أمام كارثة مهولة ومأساة إنسانية لا وصف لها، وجريمة إبادة جماعية. في بعض الأيام قد تشترك في قصف غزة 200 طائرة حربية من أكثر الطائرات فتكا في الدنيا حاملة ذخيرة حتى صانعوها لم يكن في خلدهم استخدامها ضد مناطق سكنية مثل غزة، التي تعد أكثر مناطق العالم كثافة من حيث السكان. بيد أن الحرب هذه أفرزت سردية أذهلت الدنيا إلى درجة أن الصحافة الغربية، التي لم تنصف أهل غزة ألبتة في تغطيتها الحرب العدوانية الإسرائيلة على الشعب الفلسطيني هناك، أخذت تبدي دهشتها وتحاول الاستئناس بآراء الباحثين والعلماء علها تحصل على تفسير لهذه الظاهرة التي يرونها غريبة وعجيبة. بعد الدمار الذي لحق قطاع غزة وآلاف الضحايا جلهم من الأطفال والنساء "العدد اقترب من 15 ألفا عند كتابة هذا المقال" والتدمير والتهجير على أوسع نطاق، ومئات الآلاف من الناس يلتحفون السماء بعد أن خسروا ليس بيوتهم وأملاكهم بل أغلب أفراد عائلاتهم، يريد الإعلام الغربي معرفة الكنه وراء سكينة الناس المظلومين هؤلاء وكيف لا يسبون أو يشتمون أو يستخدمون مفردات نابية. يتساءل الإعلام الغربي كيف لمسن فقد كل أفراد عائلته ودمر بيته، وعندما يسأل عن موقفه، يرد بسكينة وطمأنينة: "الحمد لله.. أنا بخير".
يود الإعلام الغربي معرفة ما الذي يدفع هؤلاء الناس إلى عدم التذمر والتظاهر والتشكي بل العوذ بالله وحمده على ما أصابهم به العدوان الإسرائيلي الغاشم من فاجعة تخفق الكلمات والعبارات عن وصفها.
تذكر جريدة "ذي جارديان" في تقرير مطول لها أن الناس في الغرب صارت تبحث عن السر وراء هذه السردية، سردية "الحمد لله" ومنهم من صار يقلب صفحات الذكر الحكيم لفهم الأسباب الكامنة وراء الثبات والقدرة الفظيعة لهؤلاء الناس لتحمل مأساة وفاجعة بهذا الحجم.
شعب غزة، بثباته وصبره ورويته واتكاله على سردية "الحمد لله" هو الذي انتصر على آلة الحرب الإسرائيلية المدمرة. الحرب في غزة حدث، ولكن السردية التي تجعل شعبا مستضعفا ومنهكا ومحاصرا دمرت إسرائيل مسكنه وجرفت أرضه وقتلت الآلاف من أطفاله وشيوخه ونسائه يصبر ويصابر على محنة لو أصابت جبلا لانشق إلى نصفين هي التي فازت ولن تتمكن أي قوة مهما بلغت من الجبروت التغلب عليها.
هذه السردية هي التي في رأيي ستجبر ليس إسرائيل وحسب بل العالم الغربي الذي يساندها في عدوانها الهمجي إلى تغيير المسار. القوي باستطاعته التغلب على الضعيف بيسر ولكن لن يتمكن من كسر ثباته وطمأنينته ورباطة جأشه وهو يردد ويستعين بسردية "الحمد لله".
بعد كل هذا التوحش الذي مضى عليه نحو 50 يوما حتى الآن، نرى تغييرا ولو بسيطا في الخطاب الغربي ليس حبا للمظلومين من الفلسطينيين بل بحث عن المعرفة، البحث وإثارة الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها هي التي قادت الغرب إلى تبوء القيادة في الصناعة والتكنولوجيا والاقتصاد وغيره. اليوم يبحث الغرب ويثير أسئلة عله يلقى جوابا عنها، وكلها تدور حول معرفة السر وراء الإيمان لدى الشعب الفلسطيني، الإيمان الذي يجعله قويا، ويحثه على ترديد "الحمد لله" رغم ما يمر به من مأساة. هل سيفهم الغرب؟ إن فهم أم لا، لا راد لانتصار سردية "الحمد لله".
التعليقات