قلت للقلم: هل كنت تعي تماماً ما تقول حين ختمتَ العمود أمس (تداعيات وسائط التواصل)، بعبارة «إن مستقبل وسائط التواصل سيغيّر البنى في التربية والعلاقات الاجتماعية»؟ مثل هذا التنظير يطلقه عادةً مركز بحوث ودراسات، ملتقى دافوس، مجموعة 7، مجموعة 20، هنري كيسنجر...

قال: ما خطبُك في خطابك؟ لقد زلّت الخطى بك. أولئك الذين استشهدتَ بهم هم علل مصائب الشعوب، ونوائب الأمم. أستطيع بمنتهى البساطة أن ألخّص كل مكتبة نظرياتهم الاستراتيجية في كلمتين، هما عنوان كتاب فوكوياما: «نهاية التاريخ». كل تلك الأوهام ذهبت هباءً، وباتت لهم وباء. ها هو العالم اليوم في بداية التاريخ. لكن هذا لا يعني أن يتضوّع الليلك في الدروب بين الأصيل والسحر. الطريق طويل، فلا تكن الملول الكليل. منذ أكثر من قرنين، والنظريات الهدّامة تهوي معاولها على دعائم الأسرة والمجتمع. جدول أعمال واحدٌ يستنسخ بأشكال شتى في مجالات متعددة، في السياسة، الاقتصاد، الثقافة بآدابها وفنونها، في الإعلام، في الأزياء، في الغذاء، في الصحة، كأنهم كانوا، بل إنهم كانوا، يدفعون التاريخ إلى أن يكتب نهايته ويتكرم بالإمضاء أسفلها.

قلت: حماقة أن يتوهم دماغ يدّعي الفكر والتنظير الاستراتيجي، أن قوّةً ما أو نظريةً ما، رأسماليةً، اشتراكيةً، أو أيّ إيدولوجية تخطر على البال، تستطيع أن تسيطر وتعمّر إلى نهاية التاريخ، أي إلى الأبد. الجنون اللامعقول هو أن عبارة نهاية التاريخ ذاتها تحكم على نفسها بالإعدام، فهي تعني أن التاريخ انتهى، فلا تاريخ بعد. حتى نهاية صراع التيارات والمذاهب الفكرية والسياسية والاقتصادية، ليست سوى مثالية يحتاج بلوغها إلى آلاف السنين، لأنها تتطلب تحوّلاً بيولوجياً أبعد من المنظور البعيد. أن يصير الإنسان في غنىً عن كل أسباب الصراع، الطاقة وسائر دواعي التنافس. هل يُعقل أن يغدو البشر ملائكةً بعد عشرة آلاف سنة؟

قال: إن ما على المجتمعات هو المحافِظة على الحدّ الأدنى من القيم الأسرية والاجتماعية، أن تظل بالمرصاد للحفريات العميقة التي تجري في وسائط التواصل، على طريقة الدواهي تحت السواهي، فوراء أكمتها ألف حصان طروادة، لتدمير البنى التربوية والاجتماعية، تحت أقنعة حريات الفكر والرأي والتعبير وحرية الإبداع، والتحرر من قيود الماضوية والخرافات والتزمّت.
لزوم ما يلزم: النتيجة الاعتراضية: من السهل اتهام طرح كهذا، بأنه يدعو إلى فرض الرقابة. لكن، حذار، فوسائط التواصل تتغوّل. إنها شيوعية الإعلام.