بعد حياة طويلة بغت قرنا من الزمان ( 100 عام) توفي هاينـز (هنري) ألفريد كيسنجر وزير خارجيّة الولايات المتحدة السابق بعد أن ظلّ متشبّثا بالحياة والتأثير السياسي طيلة حياته، وكيسنجر كما هو معلوم ابن لأسرة يهوديّة ألمانيّة هاجرت إلى الولايات المتحدة عام 1938 هربًا من الاضطهاد النازي لليهود وحصل على الجنسيّة الأميركيّة في عام 1943، وقد خدم خلال الحرب الغربيّة (العالميّة) الثانية في مجال التجسس في الجيش الأميركي وفي الحكومة العسكريّة الأميركيّة التي تشكّلت في ألمانيا بعد هزيمة هتلر، وبعد إكمال تعليمه تبنته المؤسسة الأميركيّة العميقة إذ أصبح مديرًا لبرنامج دراسات الدفاع من عام 1959 إلى عام 1969.

وعمل أيضًا مستشار المسائل الأمنيّة لمختلف الوكالات الأميركيّة في عهود الرؤساء: دوايت د. أيزنهاور، وجون إف كينيدي، وليندون جونسون، وبعد ذلك عمل مستشارًا لشؤون الأمن القومي ووزيرًا للخارجيّة، في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، وفي عام 1973 حصل على جائزة نوبل للسلام بالاشتراك مع لو دوك ثو من فيتنام الشماليّة "لجهودهما في التفاوض على تسوية سلميّة" لحرب فيتنام.

وتتّهمه دوائر حقوقيّة وإعلاميّة أميركيّة بأنه مجرم حرب كان ينبغي محاكته لدوره في دعم انقلابات وفرق موت في عدة بلدان في أميركا اللاتينيّة، ووفقا لكاتب سيرته الذاتيّة جريج جراندين فإن "يدي كيسنجر ملطختان بدماء ما لا يقل عن 3 ملايين شخص"، وفي عام 2001 صدر كتاب محاكمة هنري كيسنجر "The Trial of Henry Kissinger" من تأليف "كريستوفر هيتشنز" مستعرضا سلسلة جرائم الحرب التي يزعم المؤلف أن كسينجر ساهم في ارتكابها في فيتنام وكمبوديا ولاوس وبنغلاديش وتشيلي وقبرص وتيمور الشرقيّة. ويقول المدعي العام المخضرم في جرائم الحرب ريد برودي: "عدد قليل من الأشخاص لهم يد في هذا القدر من الموت والدمار والمعاناة الإنسانيّة في العديد من الأماكن حول العالم ومنهم هنري كيسنجر".

ومع ذلك يتفق خصوم وأصدقاء كيسنجر على عبقريّته ودهائه السياسي وقدرته المذهلة على المراوغة وانتظار النتائج وهذا ما حصل في الملفّات التي تولاها مع الصين وروسيا في حقبة الحرب الباردة، وقيل عنه إنه مهندس الدبلوماسيّة العالميّة في القرن العشرين، و"ثعلب السياسة" وملهم السياسة الخارجيّة الأميركيّة بوصفه المستشار غير المعلن لكل وزراء الخارجيّة، بل ورؤساء الولايات المتحدة فقد ظلّ حتى أسبوع وفاته يوجه الأميركيين والإسرائيليين لأفضل سبل التعامل مع الوضع في غزة.

ويذكر العرب دور كيسنجر ضمن "الدبلوماسيّة المكوكيّة" في إنقاذ إسرائيل أثناء حرب رمضان 1973، وتشير يوميّات تلك المرحلة إلى أن كيسنجر زار القدس 16 مرة ودمشق 15 مرة، وسافر إلى ست دول في المنطقة في حوالي شهر واحد فقط، وقد بذل جهودا كبيرة ومارس ضغوطا أكبر باسم القوة الأميركيّة لتحييد القوى العربيّة المؤثرة، ومكافأة حافظ الأسد بلبنان لقاء المحافظة على هدوء الجبهة السوريّة، والضغط على مصر لتحييد الدور الكبير للجيش المصري، ولعل هذا يفسّر بعض ما قال الرئيس الإسرائيلي "إسحاق هرتسوغ" فور إعلان وفاة كيسنجر إذ قال: «إسرائيل تنعم حتى يومنا هذا بثمار العمليات التي قادها كيسنجر، بما في ذلك إرساء أسس اتفاق السلام بين إسرائيل ومصر».

  • قال ومضى:

موت الجاني لا يعيد الحياة للضحيّة..