يتأثّر الاقتصاد وعالَمُ المال والأعمال، في أيّ مجتمعٍ، بما تتأثّر به السّياسةُ والثّقافة وما يتأثّر به الاجتماعُ من عوامل الاستقرار والفوضى. ولمكانة الاقتصاديِّ في كلّ بنيةٍ اجتماعيّة -أي من حيث هو العامل المحدِّد فيها- تنعكس نتائج استقراره أو فوضاهُ آثاراً ماديّةً مباشِرة في مجموع حقول المجتمع الأخرى: السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، بل كثيراً ما تَنْعم تلك الحقول (أو بعضُها على الأقلّ) بالاستقرار والانتظام ثمرةً لاستقرار الحياة الاقتصاديّة والماليّة، وكثيراً ما تُبْتَلى بالفوضى -حيناً آخر- في امتدادِ نتائج الفوضى التي تعصف بعالم الاقتصاد والمال والأعمال.
هذا التّرابُط التّلازميّ بين استقرار الاقتصاد، أو فوضاهُ، واستقرار المجتمع ومجالاته كافّة أو فوضاها يَرُدّ، من غير شكٍّ، إلى مركزيّة العامل الاقتصاديّ في كلّ بناءٍ اجتماعيّ -كما سبق الإلماح إلى ذلك-؛ لكنّه يُفصح عن حالٍ من المفارَقة تستبدّ بكلّ مجتمعٍ ودولة: قوّة الاقتصاد وهشاشتُه في آن. بيان ذلك أنّ حال الاستقرار في الدّولة والمجتمع لا تكون إلا متى كان اقتصادُ الدّولة ذاك قويّاً، وبالتّالي، مستقِرّاً ومحصَّناً ضدّ الأزمات إلى حدودٍ تسمح له قوّتُه، عندها، بأن يمتصّ مشكلات المجتمع والدّولة فيمنعها من الانفجار.

في المقابل، لا يَني الاقتصاديُّ يكشف -في كلّ مجتمعٍ- عن هشاشته وعن قابليته للتّأزّم في كلّ مرّةٍ استفحلت فيها معضلاتُ الاجتماع الوطنيّ واستعصتْ على الحلّ وبالتّالي، استجرّت أزمةً سياسيّة عامّة. لذلك قيل، باستمرار، إنّ البيئة الخصبة للاقتصاد والتّنمية هي بيئة الاستقرار العامّ؛ البيئة التي تمنح الثّقة للاستثمار وقُواهُ: أكان استثماراً خاصّاً أو عامّاً.

قد تكون عوامل استقرار الاقتصاديِّ والماليِّ أو فوضاهُما داخليّة وقد تكون خارجيّة وربّما أتت نتيجةً لاجتماع هذه وتلك. في الحاليْن، قد تكون أسباب الفوضى اقتصاديّة صِرْفاً، أعني نتيجةً لأزمةٍ مّا عرضت لذلك النّظام في آليات عمله، أو في شروط الإنتاج والتّنمية وتوازنات العلاقة بين المنتوج والطّلب، أو في موارد المال المسخّرة في مشروعات الإنتاج والأعمال.

أمّا إن كانت الأسبابُ غير اقتصاديّة في إنتاج حالة فوضًى اقتصاديّة أو ماليّة فالأوضاع تتعسّر أكثر، وما أكثر حالات الفوضى الاقتصاديّة والماليّة التي كانت خلفها أسباب سياسيّة صِرف، وكان المُراد بها توليد حالةٍ من الفوضى العامّة والعارمة في الدّولة والمجتمع؛ ولعلّ المثال الدّالَ على هذا النّوع من الفوضى الاقتصاديّة والماليّة ما يجري في لبنان، منذ مطلع عام 2020، من وقائع الانهيار الاقتصاديّ والماليّ للبلاد لسببيْن متضافريْن: الأزمة السّياسيّة الدّاخليّة المفتوحة بين القوى المتنازعة على السّلطة وقد استفْحلت أكثر منذ نهاية عام 2019؛ والإرادات الأجنبيّة المتعدّدة السّاعية في إلحاق العقاب الجماعيّ بلبنان على تمسكه بقراره الوطني.

ولقد تبلغ تلك الأسباب السّياسيّة ذُراها في التّأثير السّلبيّ على أوضاع الاقتصاد والمال والأعمال حين تستفحل إلى الحدّ الذي تبلغ فيه الأزمة عتبةً انفجاريّة. ذلك، مثلاً، ما يقع في المجتمعات التي تشهد على حروب أهليّة فيها؛ إذ سرعان ما يستتبعُ اندلاعَها توقُّفٌ في آلة الإنتاج، ونقصٌ فادح في المنتوج، وارتفاعٌ مَهُول في كُلف العيش، وانهيارٌ مروّع في قيمة العملة، وتبطُّلٌ وتزايُدٌ في معدّلات الفقر.