تساءل بعض الصحف ببجاحة: لماذا يكره العرب كيسنجر؟ السؤال خطأ، لأن العرب ليسوا وحدهم من يكره كيسنجر. لن أذكر محاسنه ميتًا، فهول قليل حظ عندي، لكني لن أتجنى عليه. حال كيسنجر لخصته مقالة في صحيفة نيويورك تايمز تقول: ينبغي أن نتذكر هنري كيسنجر بسبب المعاناة التي سببها. يضاف لها وصف أكثر تفصيلاً من صحيفة أمريكية ثانية هي الإنترسبت التي أبّنت كيسنجر بالقول: «هنري كيسنجر، أعلى دبلوماسي أمريكي مسؤول عن ملايين الوفيات... قلة من الناس... كان لهم يد في هذا القدر من الموت والدمار، وفي الكثير من المعاناة الإنسانية، في العديد من الأماكن حول العالم مثل هنري كيسنجر». أما RolingStone الأمريكية فكتبت: «هنري كيسنجر، مجرم الحرب المحبوب من قبل الطبقة الحاكمة في أمريكا، يموت أخيرًا».

ذلك الميكافيلي المصاب بجنون العظمة كما تصوره الصحافة الغربية ابتكر مدرسته الخاصة في السياسة الخارجية الأمريكية، ولأنه الوحيد في تاريخ أمريكا الذي يتبوأ منصب وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي، فقد ابتكر نهجًا أصبح فيما بعد عنوان السياسة الخارجية الأمريكية منذئذ. إنه لا يؤمن بوجود سياسية خارجية أمريكية وإنما بقيم وطريقة حياة أمريكية هي الأكثر مناسبة للعالم، وقوة أمريكية قادرة على فرضها على المجتمع الدولي. ولذلك استحدث روايته الخاصة لأمريكا باعتبارها موطن تحقيق الأحلام، وأرض الحريات والرخاء الاقتصادي والديموقراطية، وتولى تعظيم هذه الرواية لتصبح لاحقًا هي أجندة الإعلام الأمريكي الموجهة للداخل والخارج، في مقابل العمليات العسكرية على الأرض والتدمير والقتل والحصانة ضد المساءلة، وهي رواية لا يتناقلها أحد.

تمتعت الهند في عهد نيكسون وفترة توهج كيسنجر بموقف قوي داخل دول عدم الانحياز فتدول لها كرها خاصا في نفس كيسنجر لدرجة أنه في مكالمة تلفونية مع رئيسه نيكسون، رفعت عنها السرية لاحقًا، وصف أنديرا غاندي بعد لقائها الرئيس الأمريكي بأنها عجوز شمطاء ساحرة، ووصفها بالعاهرة، وتجاوز في سوء أدبه ليشتم جميع نساء الهند. ولذلك فليس مستغربا أن يؤبنه موقع NDTV الهندي بالقول: «كيسنجر، أستاذ السياسة الواقعية، أبحر عبر التيارات الغادرة للعلاقات الدولية ببراعة مكيافيلية، تاركًا وراءه سلسلة من العمليات والمعاملات السرية»، ويضيف: لعب كيسنجر، بعد مأساة غاز بوبال عام 1984 التي تسببت في وفاة نحو 3000 شخص وأثرت على أجيال، دورًا مثيرًا للجدل في حماية شركة الكيماويات الأمريكية يونيون كاربايد من المساءلة القانونية وعمل بمكر على ترك الضحايا يركضون إلى المحاكم للحصول على التعويض المناسب.

وغير بعيد عن الهند، تتساءل صحيفة دون الباكستانية ما إذا كان كيسنجر مجرم حرب أم سيد الشطرنج، ولماذا يتفوق الرجل على المسرح العالمي، بينما يسيل الدم على جزء كبير منه. وتسلط صحيفة واشنطن بوست الضوء على الدور المركزي لهنري كيسنجر في القصف الأمريكي الشامل لكمبوديا، فمن عام 1969 إلى عام 1973، بصفته مستشارًا للأمن القومي ووزيرًا للخارجية في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، أدار كيسنجر القصف الشامل لمساحات كبيرة من كمبوديا التي ادعى المسؤولون الأمريكيون في ذلك الوقت أنها ملاذات للمتمردين الشيوعيين من جنوب فيتنام، وكذلك للجنود الفيتناميين الشماليين. ويقدر بن كيرنان، المؤرخ في جامعة ييل والباحث البارز في تراث الولايات المتحدة في كمبوديا، أن حوالي 500 ألف طن من القنابل الأمريكية أسقطت على كمبوديا خلال هذه الفترة وقتلت ما يصل إلى 150 ألف مدني.

العرب كغيرهم، عانوا من سياسات هنري كيسنجر، وبصفته أول يهودي يتولى منصب مستشار الأمن القومي، وبذلك فإنه لم يكن متساهلاً ولا ودودًا مع العرب ولا عادلاً مع قضاياهم، لكنهم ليسوا الوحيدين الذين يذكرون سيئاته بعد رحيله، فالإعلام العالمي عمومًا والأمريكي خصوصًا قدّم كشف حساب منجّم ومزمن لجرائم كيسنجر، وستلاحقه اللعنات جيلاً بعد آخر. وكون بعض الإعلام السطحي لا يرى سوى كراهية العرب لكيسنجر، فإن ذلك لا يغير من حقيقة الرجل شيئًا، وإنما يكشف السذاجة في التعاطي مع التاريخ.