قرر القذافي عدم دفن الكيخيا وأبقاه في ثلاجة، ووضع حرساً يقفون أمام باب الفيلا لحراستها طوال 14 عاماً، أي من العام 1997 وحتى العام 2011.
قرأت مؤخراً مذكرات «الرائد عبد السلام جلّود» والموسومة «الملحمة»، وكنت قد تعرّفت عليه في الشام في العام 1981 في فعالية خاصة بمؤتمر الشعب العربي، وفي الثمانينات التقيته أكثر من مرّة في طرابلس، سواء في مؤتمر الحوار القومي - الماركسي أو حول القضية الفلسطينية أو بمناسبة ثورة يوليو المصرية، إضافة إلى لقاءات المجلس القومي للثقافة العربية، الذي كان يصدر «مجلة الوحدة».
ما لفت انتباهي في المذكرات هو ما جاء على ذكره بخصوص منصور الكيخيا، الذي سأتوقّف عنده بمناسبة الذكرى الثلاثين لاختفائه في القاهرة (10 كانون الأول / ديسمبر 1993) من فندق السفير بالدقي، حيث كنا نحضر مؤتمراً للمنظمة العربية لحقوق الإنسان.
يتحدّث جلّود عن كفاءات ومواقف الكيخيا، فهو من النخبة المتميّزة، ويقول إنه حين شكّل وزارته عقب ثورة الفاتح من سبتمبر/ أيلول 1969، اختاره وزيراً فيها، ويشيد بعدد من صفاته، ويذكر أنه حين اتّخذت ليبيا قراراً اسمته «ثورياً وتاريخياً» (وإن كان بالمقلوب لأنه يدلّ على عدم معرفة، بل جهل بقواعد العمل الدبلوماسي الدولي)، ومفاده أن على من يزور ليبيا ينبغي أن تكون بيانات جواز سفره باللغة العربية، وكان منصور حينها وزيراً للخارجية، فلم يتقبل القرار، وجاءني منزعجاً ومعاتباً، وقال إنه لا يتحمل مسؤولية هذا القرار وخرج من مكتبه واعتكف بمنزله، لكنه حين عرف بقبول الدول الغربية مثل هذا القرار «الغريب»، شتم الغرب الذي وافق على هذا القرار «ورضخ لإرادتنا»!!
كما ذكر جلّود أنه ضمّ الكيخيا إلى لجنة برئاسته لإدارة مفاوضات إجلاء القوات الأجنبية ضمت عبد المنعم الهوني وصالح منيصير، كما شارك في لجنة إعداد دستور اتحاد الجمهوريات العربية، التي ضمت ليبيا ومصر وسوريا.
وينسب جلود إلى الكيخيا بعد انتقاله إلى المعارضة تصريحاً لم يوثّقه، يقول فيه: إن «على أمريكا أن تأتي بدباباتها وطائراتها لتقتلع القذافي من ليبيا». وحسب علمي أن الكيخيا كان داعية سلام وحوار لإحداث التغيير، وهو ما دفعه للقاء بممثلي نظام القذافي في القاهرة، ويعزو جلّود سبب اختطافه وتصفيته إلى هذا التصريح.
لم يذكر جلود ما الذي حصل لمنصور الكيخيا في ليبيا بعد اختفائه قسرياً من القاهرة؟ وكنت قد تابعت الحكاية المثيرة والمؤلمة طوال الثلاثين عاماً المنصرمة، كما أصدرت كتاباً بعنوان «الاختفاء القسري في القانون الدولي – الكيخيا نموذجاً»، 1998 باللغتين العربية والإنجليزية. وتكشف تصريحات عبد الله السنوسي، مدير المخابرات الأسبق، الذي اعتقل في موريتانيا، أن الكيخيا بعد اختطافه نقل إلى طرابلس، وعاش في قبو فيلّا (لنحو 4 سنوات)، وتوفي في العام 1997، وكان قد التقاه مرتين. لكن الكيخيا لم يدفن في حينها، لأن القذافي كان يومها يستقبل عرّافة أخبرته بأن أحد الأشخاص المهمين إذا دفن سيتعرض هو إلى مكروه، وبالصدفة وصله خبر وفاة الكيخيا، فقرر عدم دفنه وأبقاه في ثلاجة (برّاد)، ووضع حرساً يقفون أمام باب الفيلا لحراستها طوال 14 عاماً، أي من العام 1997 ولغاية العام 2011.
وكان وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور، قد جاء يبحث عن أي خبر يخصّ السيد موسى الصدر، الذي اختفى قسرياً في طرابلس العام 1978، واهتدى المعنيون إلى مكان دفن الجثة، التي كانت محفوظة في الثلاجة، فقارنوا عينات من الحمض النووي واتضح أنها لا تعود إليه، إنما لمنصور الكيخيا.
في شهر ديسمبر(كانون الأول) 2012، أقيم احتفال تكريمي مهيب للكيخيا في طرابلس، ووجهت لي الدعوة من طرف رئيس الوزراء علي زيدان، ومحمد المقريف رئيس المؤتمر الوطني (رئيس الدولة)، اعترافاً من الجهات الرسمية الليبية الجديدة بالدور الذي قمت به لإجلاء مصير الكيخيا، الذي رقد في ثلاجة لنحو عقد ونصف العقد من الزمن. وكانت لجنة قد تشكّلت في لندن، برئاسة الشاعر بلند الحيدري وعدد من المثقفين العرب لإجلاء مصيره باعتباره رمزاً للمختفين قسرياً.
التعليقات