كان أكثر ما أثاره قرار إغلاق قناة أورينت، ومن ثم توقف شبكة بلدي نيوز، هو تأسّف قلّة من المتابعين السوريين على العاملين الذين فقدوا وظائفهم في الشبكتين. أورينت تحديداً نالت نوعاً آخر من ردود الأفعال بإعلان البعض الفرح بإغلاقها، عطفاً على ما يُرى من قبلهم إسفافاً في طائفيتها. جدير بالذكر أنها القناة التلفزيونية السورية "الخاصة" الأقدم، قبل تحوّلها إلى شبكة إعلامية وخيرية، أما بلدي نيوز فهي محسوبة على "الإعلام البديل" الذي ظهر بدعم خارجي بعد عام 2011، وليست بضخامة وحضور أورينت.

التأسف فقط، وفقط التأسف، على أحوال أولئك الموظّفين الذين فقدوا فرص عمل يفضح الكثير من علاقة السوريين بالإعلام، والتي لا نبالغ لوصفها باستعادة جملة قديمة مختصرة هي: حكي جرايد. فعندما كان السوري يريد الاستهانة بخبر أو معلومة، أو تكذيبهما بالمطلق، نجده يتفوّه بالقول المأثور "حكي جرايد". وهو تعبير لا يقتصر على تكذيب الإعلام، بل دخل في الثقافة السورية كمجاز يُقصد به التكذيب عموماً أو الاستهانة بما يُقال في أي مجال كان، بما في ذلك مجال العلاقات الشخصية.

ويسهل تبرير شيوع ذلك القول بحال الإعلام السوري منذ انقلاب البعث، إذ كان من قرارات الانقلابيين الأولى إغلاق الصحف والمجلات الخاصة باستثناءات قليلة جداً لمنابر ليس لها أصلاً حضور واسع. هكذا صار لبعض السوريين فردوس مفقود، أيام كانت الصحافة السورية مزدهرة وتتنافس لتقديم "الأفضل"، بينما الإعلام البعثي والأسدي مجرد "حكي جرايد" مليء بالكذب والشعارات. وشاعت أيضاً الفكرة القائلة أن إعلام الأسد لا يعطي الفرص المناسبة للكفاءات إن وجدت ضمنه، بينما يُعلي من شأن عديمي الكفاءة وتنخره ظاهرة المحسوبيات، وكان نجاح أي إعلامي سوري في الخارج يُسوَّق كتأكيد إضافي على ما سيفعله السوريون ما أن يتخلصوا من الأسد.

ثم، مع المظاهرات الأولى في عام 2011، برزت ظاهرة الناشط الإعلامي الثوري وعدّته التي تقتصر على كاميرا الموبايل، بل صار للظاهرة نجومها الذين تستضيفهم أو تنقل عنهم صحف وقنوات تلفزيونية كبرى. وكجزء من دعم الثورة، لم يتأخر ظهور ما عُرِف بالإعلام البديل، المموَّل بنسبة ساحقة من دول ومنظمات غير سورية. لسنا في سياق إحصاء دقيق للمنابر السورية البديلة، ويمكننا القول أن العدد الكلي، بين ما أغلِق منها وما بقي مستمراً، يفوق بكثير الفعالية المعروفة لهذا الإعلام.

انخفاض الفعالية لا تتحمل المنابر مسؤوليته الكاملة، فعقلية "حكي جرايد" بقيت راسخة بين عموم السوريين، بمعنى أن الإعلام البديل منذ بداياته كان عرضة للاستهانة الموروثة من حقبة الأسد. ومنذ البداية أيضاً كانت الفجوة موجودة بينه وبين جمهوره المفترض، لأن الجمهور اعتاد لعقود ألا يرى الإعلام ممثّلاً له. هذه الفجوة بين الطرفين أراحت جزءاً من الإعلام، إذ لم يكن محطّ انتباه ونقد، وهذا الجزء غير القليل يريد أن تكون المنابر منتمية للقائمين عليها لا للجمهور.

خلال ما يزيد عن عقد، لم يحظَ السوريون بالثقة التي تتيح لهم الشعور بأنهم يمتلكون إعلاماً سورياً، والمقصود بذلك أن يمتلكوا إعلاماً متنوعاً، يحظى بمتابعة شرائح متباينة الأهواء، ويرضي بمجمله النسبة الغالبة منهم فيتأسف أفرادها على إغلاق منبر هنا أو هناك، حتى إذا لم يكن موافقاً لأمزجتهم أو قناعاتهم. غياب الثقة ليس موروثاً كله، فأصحاب المنابر الجديدة لم يقدّموا ما يغيّر نظرة الجمهور المرتابة، تحديداً على صعيد تغليب عنصر الكفاءة بما يدحض الشكوك حول تفشي المحسوبيات في ظاهرة الإعلام البديل إجمالاً.

غابت المشاريع الإعلامية الحقيقية، فلم تكن هناك مثلاً طوال هذه المدة جريدة سورية "ليست ورقية بالضرورة" بمثابة مؤسسة ذات هوية إعلامية خاصة وسوية جيدة، والمطلوب أكثر من منبر بهذه الصفات التي لا يُعتبر الحديث عنها تطلّباً فوق الاعتيادي. ومع غياب المشاريع غاب التفاعل بين ما هو موجود والجمهور؛ غابت الأرضية التي يتلاقى عليها الطرفان، والتي عليها وبها يمكن الحديث عن جدل وحوار على المستوى العام، وعن رأي عام "أو آراء عامة" يأتيان من التبادل والتفاعل حول مختلف القضايا.

في ظروف الشتات السوري، كان لوجود مؤسسات ومشاريع إعلامية جادة أن يعوّض جزءاً من التشرذم الحاصل على الصعيد السياسي. فتكوين آراء عامة خاصة بالشأن السوري، من خلال الإعلام، هو في صميم النشاط السياسي خارج الهيئات والتنظيمات السياسية. يمكننا المقارنة مع أي بلد ديموقراطي، وملاحظة اصطفافات الإعلام فيه والجدل بين الخنادق المختلفة، وغياب ذلك كله سوريّاً لا يتعلق فقط بقلة التمويل قياساً إلى بلدان ديموقراطية ثرية، بل بعدم وجود الكفاءات القادرة على إدارة الموارد التي أتيحت "وهي ليست ضئيلة جداً"، أو بعدم توفر النوايا لفعل ذلك.

ولا نستبعد من الصورة التأثيرَ السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي، عبر الترويج أولاً لكونها تعبيراً عن عصر ديموقراطية تداول المعلومات وإنتاجها، ووضعها تالياً مقابل وسائل الإعلام "التقليدية" التي انهال التصويب على سلبياتها وتوافد المشيِّعون لدفنها سريعاً. لمدة قصيرة في بداية الثورة لعبت وسائل التواصل، الفيسبوك خاصةً، دوراً إيجابياً في التبادل والتفاعل بين السوريين، وما أن انتهت مرحلة الاستكشاف حتى تبيّن عجزها عن الفعالية المطلوبة من الإعلام، العجز المترافق مع وهم الفعالية المستمرة للمستخدم طالما بقي حسابه نشطاً. وبصرف النظر عن أن وسائل التواصل أصبحت مرتعاً للشعبوية على مستوى العالم، فإن النظر إليها كبديل "ديموقراطي" عن الإعلام لم يُثبت أحقيته رغم تراجع الأخير.

من السهل أن نردّ فشل الإعلام البديل إلى الفشل السوري العام، لكن هذا ينزع عنه خصوصيته والقيمة المفترضة لتأثيره. ليس الفشل ولا اليأس ما يدفع إلى القناعة بأن إغلاق كافة المنابر السورية لا خسارة فيه، بل لا نعدم نسبة من السوريين تتمنى إغلاقها تحت يافطة رداءة الموجود، والتعالي على الموجود خصلة سورية تسندها الثقة المفرطة بأن من يمارسه جدير به! إلى جانب تلك، هناك قناعة أخرى لدى البعض، مفادها تأويل انسحاب التمويل الخارجي للإعلام البديل ضمن تغيير العديد من الدول سياساتها تجاه الشأن السوري، إلا أن هذا البعض لا يلحظ سهولة التخلّي عن منابر لم تحقق حضوراً ملحوظاً لدى جمهورها السوري. في كل الأحوال، من المؤسف أن يكون إغلاق المنابر مجرد خبر تنتهي قراءته سريعاً، فلا يستدعي التفكير في رحلة "حكي جرايد" من الشك في إعلام البعث والأسد إلى استخدامها "المعارض" الذي نشهد نهايته.