حتى وإن أفلت “الوقود الأحفوري” من الحكم المؤجل بالإعدام في مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (كوب 28) الذي احتضنته الإمارات، فإن حكم التاريخ لم يتغير.

في وقت من الأوقات، كان الشغل الشاغل للذين تعتمد اقتصادياتهم على عائدات النفط، هو ما إذا كانت الحقولُ سوف تنضب. الاكتشافات المتواصلة أظهرت أن أعمار الحقول أطولُ حبالاً من الخوف عليها. حتى ظهر أن الحاجة إلى النفط هي التي سوف تنضب، وليس وفرته.

مؤتمر المناخ، منح أملا بأن يتراجع سُعار الحرب ضد النفط بوصفه واحدا من أسباب التغير المناخي، عندما دعا إلى “التحول عن الوقود الأحفوري في أنظمة الطاقة، بطريقة عادلة ومنظمة ومنصفة، وتسريع العمل في هذا العقد الحرج”.

نحن إذن في “عقد حرج”. فماذا تقول لمن أضاعوا عقدين من الزمن وأكثر من تريليون ونصف تريليون من الدولارات في أعمال الفساد والنهب في العراق؟

ماذا سيبقى، أو ماذا سوف يُورّثون للبلاد، بعد أن تتراجع الحاجة إلى النفط كمصدر للطاقة، وتنحسر السوق، وتتراجع الموارد؟

الميليشيات الحاكمة في العراق، أبعد ما تكون الآن، عن التأمل في “المستقبل القريب”. ولكنه قريب. وهو لم يعد “مستقبلا” أصلا، ولا غير منظور.

مشاغل البحث عن مصادر للطاقة النظيفة تحولت إلى مشاريع أعمال كبرى. ولن تمضي بضع سنوات، ربما حتى نهاية هذا العقد من الزمن بالفعل، لتصبح هي المصدر الرئيسي للطاقة في مختلف أرجاء العالم.

هذا يعني، بلغة المشاغل الميليشياوية السائدة، “مستقبلا” لا يبعُد عن موعد الانتخابات ما بعد الانتخابات المقبلة مباشرة. حتى ليجوز التساؤل: ماذا سوف يُورّثون لأنفسهم بالذات، دع عنك البلاد نفسها، وهي ذاهبة إلى الجحيم؟

أمضت هذه الميليشيات عقدين من الزمن وهي تنهب. حتى فاض الكيل بالناس، إذ رؤوا أنهم يفقرون وتتحوّل بلادهم إلى مستنقع فساد، وتنهار بنيتها التحتية وتضمحل الخدمات الأساسية، وتتدهور الزراعة بنقص المياه، وتنفق أكثر من نصف ميزانيتها على استيراد الأساسيات من الخارج، بينما تنفق الباقي، مع بعض العجز، على مؤسسة أمنية وعسكرية وميليشياوية، ربعها، على الأقل، “فضائي”، أي أنها أرقام وأسماء لموظفين وهميين.

تبدو حكومة محمد شياع السوداني بما تطرحه من مشاريع وخطط، وكأنها آخر الأحابيل، وآخر الفرص. إلا أنها، إذ ورثت فراغا مثل ثقب أسود يمتص الموارد، فإنها لا تجد في واقع الأمر ما يكفي لأن تستثمر في ما تطرحه.

الوقت تأخر على الاستدراك وعلى الأحابيل. والاستثمارات الخارجية، إذا بدت وكأنها هي المنفذ الوحيد لتغيير المسار إلى نحو المنحدر، فالحقيقة هي أن أول حقل في جداول الاستثمار الخارجي، هو عمر المشروع وعمر عائداته. بينما الاستقرار الأمني والسياسي هو الحقل الذي يليه مباشرة. والعراق فاشل بهذين الحقلين معا، وفي ذات الحين.

النفط هو رهان الميليشيات وسلطتها. ولكن الحاجة إليه تنضب، ما يجعل الاستثمارات فيه أقل استعدادا للمغامرة. كما أن الاستثمارات في غيره لا توحي بالثقة أيضا.

تتوهم الجماعات الحاكمة أن نظامها مستقر. ولكن أنظر في فوضى التفاصيل، وستلاحظ أن البلاد في مخاض دموي من النزاعات والصراعات بين “المكونات” وبعضها البعض، من جهة، وبين جماعاتها الداخلية من جهة أخرى.

ثمة حرب منظورة، ودائمة، وغير قابلة للاستقرار، تدور حول المناصب والمكاسب والحصص. حربٌ تطيح بأشخاص وتأتي بغيرهم. حربٌ تخترع المعاذير لديمومتها، تارة بمزاعم من قانون ومحاكم عليا مزيفة، وتارة أخرى بالمنافسة مع أصحاب الكتل والكيانات. وثالثة بالانخراط في نزاعات الجوار الإيراني من أجل إملاء مشروع الخراب والفوضى في المنطقة.

هذا وضع لا يتيح، بكل بساطة، الفرصة لا للاستثمار في مشاريع إنتاجية بديلة، ولا يغري المستثمرين الخارجيين، ولا يؤهل البلاد للخروج من دائرة الفوضى القاتلة الراهنة. ذلك لأن هذه الدائرة، هي النظام نفسه. وهو قائم على مبدأ المحاصصة الطائفية، والمحاصصة بين الكيانات السياسية، والمحاصصة بين جماعاتها المختلفة، والمحاصصة بين المنتسبين والأتباع. حتى لم يبق للبلاد وأهلها ما يتحاصصون عليه من الفتات.

مئات المليارات من الدولارات التي “ضاعت من الدفاتر” أو التي حملت لقب “سرقة القرن”، كانت في الواقع جانبا من حملة فلكية، لم تحدث مثلها على الأرض، ولا في غيرها من كواكب الكون، لتحطيم العراق وتدمير مقوّمات وجوده.

هذه الحملة ماضية الآن في الطريق ذاته، وقد وصلت بالفعل إلى منتصفه. و”العقد الحرج” الذي نحن فيه، لن ينتهي قبل أن يجد العراقيون أنفسهم في اليباب، لا ماء يكفي لشربهم، ولا غذاء يستوردونه. والصراعات التي تبدو منتظمة الآن في إطار من الانضباط الشكلي بين جماعة تنافس أخرى، سوف تتفكك إلى صراعات بين عصابات صغيرة للسطو المسلح على مَنْ يمتلك كيس طحين.

تلك البدايات، هذه هي نهاياتها. ولينتظر المنتظرون. فما تأسس على خراب في منظومة الانتماء، وخراب في منظومة الحكم والإدارة، وخراب في القيم وفي النفوس، لا يمكنه أن يُسفر عن شيء آخر.

إذا كانت أحكام المنطق، هي أول السبيل لقراءة “فنجان المستقبل”، فإن فنجان النظام الطائفي، وحروبه، وولاءاته، يغلي بالنتائج الكارثية. ولا يمكنه، من الأساس، أن يعد بسواها.

النفط إن لم ينضب، فسوف تنضب الحاجة إليه. والنهب، حتى ولو توقف الآن، فإنه ترك ميراثا من الفساد والتفكك الاجتماعي والسياسي العنيف، يجعل ممارسة أيّ شكل من أشكال الحياة في البلاد نوعا من النهب.

العراقيون في حالهم المرير صاروا، في واقع الحال، ينهبون الماء سقيا لما بقي من أراضيهم. ينهبون الهواء إذا طغى الغبار وطغت عواصفه. ينهبون الخدمات الشحيحة، مثلما ينهبون الكهرباء من شبكات الشوارع. ينهبون الصحة والتعليم إذا توفرت الوسائل إليها. وينهب بعضهم بعضا بالرشى والأحابيل.

هذه هي صورة العراق بعد عقدين من سلطة الفوضى. ولن ينقضي “العقد الحرج” حتى ينكشف عار البدايات على نهاياتها المنطقية. ولات ساعة مندم في ذلك الحين.