منذ تفتحي على الدنيا ،وأنا في حضن المكتبات، وأول خطاي نحوها كانت بدفع رباعي من والدي، رحمه الله، وذلك أنه لم يكن يرغب أن أصرف وقت فراغاتي في الشوارع لعباً وهدراً للوقت، فكان يجلب الكتب، ويطلب مني أن أقرأ عليه بحجة أنه كفيف البصر، ويريد ويحتاج لمن يقرأ له، بينما كان يهدف أن يشبكني في عادة القراءة، ويقلل من عادات الشارع، ثم حدث أن أغراني بالتردد على حلقات الشيخ محمد العثيمين في الجامع الكبير بعنيزة، موحياً لي أن الشيخ هو من طلب حضوري، وكان ذلك صيف تخرجي من السادس الابتدائي، وكانت الحلقات تعقد في مكتبة الجامع، وهي مكتبة تحتوي على كتب تراثية بمجلدات يظهر عليها كثرة الأيدي التي تعاقبت عليها منذ حلقات الشيخ السعدي، ومن قبله من شيوخ تعاقبوا على تلك المكتبة، وطلبة تعاقبوا على كتبها حتى لتكاد تشم روائحهم مطبوعةً على الصفحات وتحتها تختبئ بصمات أصابعهم.
ومن بعده وقعت في أحضان مكتبة المعهد العلمي، وكان المشرف عليها هو الشيخ العثيمين نفسه، وقد كلفني بتولي مهمة الإشراف بالنيابة عنه كي يتجنب الإثقال على الطلبة، ويمنحهم فسحةً للتعامل دون رهبة الشيخ وجلال حضوره بنفسه، ما يجعلهم يتقيدون بآداب الهيبة التي يفرضها مقام الشيخ، ولذا أسند لي المهمة، ما جعلني أستخدم صفتي هذه لأمارس الجدية ورباطة الجأش لكي أفرض سلطتي على زملائي، وتبعاً لذلك صرت أقرأ أمامهم بجدية وحرص كما يقتضيه مقام نائب الشيخ وممثله، وتبع ذلك مكتبات أخرى بعنيزة، مثل المكتبة السعودية وهي مكتبة أسسها الوزير عبد الله بن سليمان وزير المالية في عهد الملك عبد العزيز، وفيها كتب تراثية وكتب حديثة ومجلات حديثة، وتضامن مع ذلك مكتبة اليحيا، وهي مكتبة تجارية تجلب الكتب الجديدة كما تعرض الكتب المستعملة، وهذه المكتبات الثلاث كانت تعمر وقتي كله، شتاءً وصيفاً، لدرجة أن حياتي تحولت من وقت مبكر لتكون حياةً مع الكتب، وأثر هذا على علاقاتي الاجتماعية ونوعية علاقاتي، إذ أصبحت الكتب هي صحبي، وأصدقائي فقط هم من أمثالي من محبي الكتب والقراءة، وبلغت علاقتي مع الكتب أنني كنت أحس بأنني أعيش مع أموات، لأن معظم الكتب تحمل في صفحتها الأولى اسم المؤلف وتحته مباشرة سنة وفاته، ما جعلني أشعر أن التأليف يعني وفاة المؤلف، وكلما طمحت خيالاتي أن أكون مؤلفاً حين تكبر سني تأتيني صورة المؤلفين الأموات، فأتصور أني لكي أكتب كتاباً لا بد أن أموت لكي يظهر تاريخ موتي تحت عنوان كتابي المفترض، ولكني كنت أستغرب من أسماء طه حسين والعقاد، ولذا كنت أجد لنفسي مهرباً من فكرة الموت حين أركز على أنهما أحياء، وهذا حررني من شرط الموت.
ومرت فترة مراهقتي برفقة الكتب ورفقة زملاء مثلي تحتلهم رابطة الكتاب، وبهذا فإن مطالع عمري، ومن ثم تحولات زمني كانت في أحضان الكتب وعالمها على حساب العلاقات الاجتماعية حتى لكأننا كائنات ورقية، وكأننا نتنفس كلمات، ونقتات أوراق الأوائل ممن مروا، وبقيت أسماؤهم على مفتتح صفحات الكتب.
التعليقات