مع مطلع كل عام جديد، ومع حدوث كل أزمة دولية أو عالمية كبرى، يصبح من المهم البحث عن إجابة عن السؤال حول التغيرات التى جرت فى النظام الدولى. ويرجع الشغف بهذا السؤال وإجابته إلى حقيقة الدور الذى تقوم به القوى العظمى والكبرى فى الحقائق الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية فى العالم المعاصر.
والشائع فى علوم العلاقات الدولية أنها ترتكز على القوى العظمى وعلاقاتها وتفاعلاتها، وما بعد ذلك إما مجرد تفاصيل، أو أقل شأنًا من المنظومة الرئيسية القادرة على الهيمنة ومد النفوذ، والمنافسة بالسلم أو الحرب أو الردع مع القوى الأخرى.
والشائع أيضًا أن تُوصف المنظومة الرئيسية بعدد الأقطاب فيها، فيُقال نظام متعدد الأقطاب، كما كان الحال ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. أو نظام القطبين، كما كان فى أعقاب الحرب الثانية، حينما انفردت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى السابق بالنظام الدولى.
أو نظام القطب الواحد، كما كانت بريطانيا ما بين 1815 بعد هزيمة نابليون و1914 ونشوب الحرب العالمية الأولى، والولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى السابق عام 1991 حتى عام 2008، عندما جرت الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، وهو العصر الذى سُمِّى العولمة شكلًا، أما فى الحقيقة فقد كانت الولايات المتحدة هى القائدة العظمى الوحيدة فى العالم.
ويهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على الثابت والمتغير فى العالم خلال 2024، وتحديدًا ما يتعلق بشكل النظام الدولى، فى ضوء التفاعلات بين القوى الرئيسية فيه، والعوامل المؤثرة فى ذلك، ومن بينها مسار الحرب الروسية- الأوكرانية، وكذلك الحرب الإسرائيلية فى قطاع غزة.
كيف يتغير النظام الدولى؟
السؤال هنا: كيف يتغير النظام الدولى وينتقل من مرحلة إلى أخرى إذا كان هناك تغيير فى القوى الرئيسية؟ ومن حال إلى حال إذا كانت الصفة الغالبة فى التفاعلات هى التعاون أو الاعتماد المتبادل أو التوتر أو التنافس وحتى الحرب إذا كانت مباشرة أو بالوكالة؟ ومؤخرًا شكلُ القيادة فى التعامل مع الأزمات الدولية الحادة مثل الحرب الأوكرانية فى أوروبا وحرب غزة فى الشرق الأوسط؟ ومثلما كان الحال مع جائحة «كورونا» أو ما يتعلق الآن بظاهرة الاحتباس الحرارى التى رُصدت عام 2023 كأكثر السنوات حرارة فى التاريخ المعاصر.
الثابت هو أن أقاليم العالم وظروفها التاريخية والجيوسياسية ليست متطابقة أو حتى متشابهة، وتظل القاعدة الأساسية لها هى تحقيق توازن القوى، بكل ما يكفله ذلك من أبعاد القوة الخشنة والناعمة والذكية. وأصبح العالم الآن، وفق وجهة نظر شائعة، ثنائى القطبية بين الولايات المتحدة والصين، استنادًا إلى أن الناتج المحلى الإجمالى للبلدين يتقارب يومًا بعد يوم. وأخذًا بمعدلات النمو، فإن الصين فى طريقها إلى مزيد من التفوق، خاصةً بعد الريادة فى مجالات الثورة الصناعية التكنولوجية الرابعة.
ويشير النمط الذى يدور فى تفاعلات القطبين الرئيسيين إلى تنافسهما، والولوج من المنافسة إلى الحرب التجارية والاستراتيجية فى بحر الصين الجنوبى وبشأن تايوان، والسياسية بالعقوبات الأمريكية على حلفاء للصين مثل كوريا الشمالية وإيران.
ومن جانبها، رأت دورية «الشؤون الخارجية» الأمريكية (Foreign Affairs) أن الثنائية القطبية تدور فى الإطار التاريخى المعاصر للعلاقات والتفاعلات الأمريكية- الروسية، وجاء ذلك فى العدد المُجمع لمقالاتها، الصادر فى إبريل 2018، بعنوان «الحرب الباردة الجديدة: روسيا وأمريكا من قبل والآن».
وتبدأ مجموعة الدراسات المنشورة من بداية الحرب الباردة القديمة، التى جرى إشهارها فكريًا من خلال مقال (X)، الذى سطره السفير الأمريكى جورج كينان، فى عدد يوليو 1947 بعنوان «مصادر السلوك السوفيتى» والذى أعلن فيه انتهاء التحالف الأمريكى- السوفيتى أثناء الحرب العالمية الثانية، ودعا كبديل إلى اتباع استراتيجية تقوم على احتواء الاتحاد السوفيتى آنذاك.
وعكست المقالات المختلفة المنشورة، التطورات وفترات الصعود واحتدام الحرب الباردة، أو تخفيف التوتر، عندما نشر هنرى كيسنجر مقاله فى يوليو 1959 بعنوان «البحث عن الاستقرار»، ونيكيتا خروتشوف، الذى نشر فى عدد أكتوبر من نفس العام فى الدورية نفسها مقالًا بعنوان «عن التعايش السلمى». ولكن لحظات التعايش والوفاق كانت الاستثناء على مسيرة طويلة من الحرب الباردة، استمرت حتى انهار الاتحاد السوفيتى السابق فى مطلع تسعينيات القرن الماضى.
وعلى مدى عقد ونصف تقريبًا، وفى ظل انفراد الولايات المتحدة فى العالم، فإن المقالات المنشورة ركزت على إنقاذ روسيا، والتعاون معها فى إطار مجموعة الثمانية. وفى عام 2002 ظهر العنوان «تجديد روسيا». ولكن شهر العسل هذا لم يستمر طويلًا، إذ تواصلت المقالات والدراسات التى تكشف عن ازدياد التوتر بين واشنطن وموسكو. وفى عام 2006 كان العنوان هو «روسيا تترك الغرب»، وفى 2014: «إدارة الحرب الباردة الجديدة» (بعد ضم روسيا للقرم). وفى عام 2018، نشرت دورية «الشؤون الخارجية» فى عدد يناير: «احتواء روسيا مرة أخرى»، وفى عدد مارس من نفس العام «هل بدأت حرب باردة جديدة؟».
ودار الزمان دورته، وبعد التدخل العسكرى الروسى فى أوكرانيا فى فبراير 2022، استحكمت الحرب الباردة من جديد بين موسكو وواشنطن، بينما كانت حرب باردة أخرى تجرى بين واشنطن وبكين.
الأولى جوهرها استراتيجى، مسرحها أوروبا والشرق الأوسط، والثانية تبدو اقتصادية تدور حول التجارة، لكنها هى الأخرى استراتيجية حول السيطرة والنفوذ فى العالم. وتدور الحربان بين ثلاث قوى هى: الولايات المتحدة التى لاتزال نظريًا القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى فى العالم، وروسيا التى أيًا كانت حالتها الاقتصادية متواضعة فإن لديها أكثر من 9 آلاف رأس نووى، ولديها مجالات للتفوق التكنولوجى فى السلاح والفضاء، والصين التى تُعد قوة اقتصادية جبارة، وقوة واعدة من حيث معدلات النمو والتكنولوجيات الحديثة.
النظام الدولى فى 2024:
هذه حالة جديدة على العلاقات الدولية فى التاريخ المعاصر، ليس فقط بسبب العدد الثلاثى للأقطاب، ولكن لأنها تأتى فى ظروف مختلفة تاريخيًا عما كان عليه الحال طوال القرن العشرين والبدايات الأولى للقرن الحالى. فقد أعطت التطورات التكنولوجية للقوى الثلاث (الولايات المتحدة وروسيا والصين) ما لم تعطه لدول وقوى أخرى، مثل الهند، أو الاتحاد الأوروبى، الذى أضعفه الخروج البريطانى منه وضعف اقتصادات أساسية فيه مثل: إيطاليا وإسبانيا واليونان، فضلًا عن تراجع النزعة الأوروبية داخل الاتحاد، ما خلق فى مجموعه ضغوطًا على ألمانيا وفرنسا، مع ذيوع حالة من الانكفاء اليمينى بين العديد من الدول الأوروبية، والعداء للعولمة التى جلبت «الإرهاب» وهجرة الكثيرين من الجنوب إلى الشمال.
والمؤكد أن الحرب الأوكرانية أدت إلى تراجع الدور الروسى فى السياسة العالمية، لكن لايزال مبكرًا توقع أن العالم بات ثنائى القطبية، لأنه بالرغم من التراجع الروسى هناك ما يشير إلى أن الحرب الأوكرانية ربما تأخذ مسارًا مختلفًا فى العام المقبل، وذلك استنادًا إلى فشل الهجوم المضاد الأوكرانى الذى بدأ فى مطلع صيف 2023 فى تغيير الأوضاع الاستراتيجية على ساحة الحرب التى ظلت فيها روسيا مسيطرة على حوالى 20% من الأرض، والتى تشمل المناطق الناطقة باللغة الروسية.
ويُضاف إلى ذلك، الضغوط الاقتصادية على الدول الأوروبية، مع صعود اليمين الأوروبى وكذلك الأمريكى، غير الأصوات السياسية العالية فى اتجاه البحث عن مسار لتسوية هذه الحرب، والذى على الأرجح سوف يسير فى اتجاه التسليم بالأمر الواقع، إن لم يكن باتفاق سلام، فسوف يكون مشابهًا لما كان عليه الحال عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014. علاوة على أن الحرب التى شنتها إسرائيل على قطاع غزة فى أكتوبر 2023، سجلت عودة الولايات المتحدة مرة أخرى لكى تركز على إقليم لم تتركه إلا لفترة وجيزة.
ووسط حرب غزة، انعقدت قمة صينية- أمريكية على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادى لدول آسيا والمحيط الهادى (آبيك) فى منتصف نوفمبر 2023، وذلك بعد لقاء مماثل جرى فى إطار اجتماع قمة العشرين فى مدينة بالى الإندونيسية قبل عام. وما يهم هنا أن القمة الصينية- الأمريكية جاءت بعد سلسلة من اللقاءات المثيرة التى غطت تقريبًا على الموضوعات الاستراتيجية كافة بين واشنطن وبكين من قضية تايوان إلى قضايا المخدرات. وتلك اللقاءات تسارعت معها تصريحات أمريكية إيجابية تجاه الصين منذ أكتوبر الماضى، وشملت جاك سوليفان، مستشار الأمن القومى، وأنتونى بلينكن، وزير الخارجية، حتى وصلت إلى لقاء الرئيسين جو بايدن وشى جين بينغ، فى نوفمبر الماضى.
وهذه الكثافة فى التفاعلات الأمريكية- الصينية تدفع إلى التوقع خلال عام 2024 أن تكون العلاقات الثنائية بين القوتين تركز على ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما. فكلاهما أولًا يريد نظامًا اقتصاديًا عالميًا مستقرًا يجعلهما أكثر استفادة من حقيقة الاعتماد المتبادل الاقتصادى الكثيف بين البلدين.
وثانيًا، أنه مع التغيرات المرتبطة بالحرب الأوكرانية، قد يكون كلاهما أكثر ميلًا للتسوية بين موسكو وكييف أو تجميد الأوضاع عند الموقف الحالى مع وقف إطلاق النار كما حدث فى السابق.
وثالثًا، أن قيام الصين بتحديد موقف مُعلن من الصراع الفلسطينى- الإسرائيلى ممثلًا فى حل الدولتين، يجعلها ليست بعيدة عن الموقف الذى تذهب إليه الولايات المتحدة فى التعامل مع حرب الشرق الأوسط. ورابعًا، أن الولايات المتحدة فى عهد الرئيس بايدن، لظروف انتخابية، يمكنها أن تسعى لكسب الود الصينى لتسوية الأزمة الأوكرانية، فضلًا عن تلاقى المصالح فيما يتعلق بالاحتباس الحرارى، إذ إن علاج ذلك لا يكون إلا بالتوافق بين البلدين.
الخلاصة، أنه من المتوقع أن يشهد عام 2024 تقاربًا أمريكيًا- صينيًا، يأخذ البلدين إلى عالم القطبية الثنائية فى حالة الوفاق الذى عرفته العلاقات الأمريكية- الصينية إبان فترة إدارة الرئيس الأسبق، ريتشارد نيكسون، بينما تُنتظر نهاية للحرب الأوكرانية.
التعليقات