في نهاية 2022 أعلن ريشي سوناك رئيس الوزراء البريطاني، الذي كان قد وصل حديثا إلى منصبه، أن مشكلات بلاده الاقتصادية لن تنتهي في 2023. في أواخر هذا العام، يبدو واضحا أنها هذه المشكلات ستستمر في 2024، الذي ستشهد فيه المملكة المتحدة، واحدة من أشد الانتخابات العامة حساسية، ليس فقط على صعيد من سيصل إلى حكمها، بل من جهة طبيعة النسيج السياسي الراهن. فالاضطرابات السياسية المحلية، في الأعوام الأربعة الماضية، أدت إلى وصول أربعة رؤساء وزراء إلى "داونيج ستريت"، كانت بينهم ليز تراس التي لم تمكث في هذا المكتب سوى 44 يوما، كانت كافية لخروجها بسبب مخططات اقتصادية اتبعتها وصفت آنذاك بأنها "غير مسؤولة". جميع هؤلاء كانوا في حزب المحافظين، الذي لا يزال يمر بـ"مواجهات" داخلية، حتى بعد أن تمكن ريشي سوناك من تهدئتها، بصرف النظر عن مستوى هذه التهدئة وقوتها.

بصرف النظر عن المسببات التي أدت إلى الحالة التي يمر بها اقتصاد المملكة المتحدة، فكل المؤشرات تدل حاليا على أنه سيكون الأقل نموا بين اقتصادات مجموعة السبع، وهو أمر يضيف مزيدا من الضغوط على الحكومة التي تحاول تأخير موعد الانتخابات العامة قدر المستطاع. فالحزب الحاكم لم يستطع أن يستعيد ما يكفي من الشعبية لخوض انتخابات، تدل المؤشرات كلها على أن حزب العمال سيحقق الفوز فيها، وأن الأحزاب الأخرى الصغيرة، ستتقدم على حساب المحافظين الذين يحكمون منذ 2010 بحكومة ائتلافية لفترة خمسة أعوام، وبعدها بحكومة كاملة منهم حتى اليوم. العيون منصبة حاليا على الاقتصاد وحراكه في الأشهر القليلة المقبلة، وبالزخم نفسه هي شاخصة على مصير الانتخابات قبل نهاية العام المقبل.

في ظل هذا المشهد، ينكمش الاقتصاد البريطاني في الربع الثالث من العام الحالي، وفق بيانات رسمية. ماذا يعني هذا؟ يعني أن هناك احتمالا واردا جدا أن تواجه البلاد أخطار الركود قبل الانتخابات المشار إليها. في حين أن الاقتصاد الغربية المشابهة وصلت بالفعل إلى المنطقة شبه الآمنة في هذا المجال، أي إنها ستضمن نموا "بصرف النظر عن مستوياته"، وتبتعد عن خطر الركود أو حتى الهبوط الناعم، وفق المفهوم الاقتصادي التقليدي. في الربع الثالث من هذا العام، انكمش اقتصاد بريطانيا بنسبة 1 في المائة، متأثرا بتراجع لافت لقطاع الخدمات، إضافة طبعا إلى مستويات الفائدة المرتفعة التي تعد الأعلى بين الاقتصادات المتقدمة، رغم أن بنك إنجلترا المركزي جمد في مراجعته الأخيرة تكاليف الاقتراض عند 5.25 في المائة، لتظل عند أعلى مستوى لها منذ أكثر من 15 عاما.

رغم أن التضخم تراجع بالفعل في البلاد خلال الفترة الماضية ليصل إلى 4.6 في المائة، إلا أن أخطاره لا تزال تدفع المشرعين الماليين لإبقاء الباب مفتوحا على رفع الفائدة إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك في المستقبل. ومن المشكلات الضاغطة الأخرى التي أدت إلى الانكماش الأخير، تلك الخاصة بارتفاع تكلفة خدمة الدين الحكومي التي بلغت 23 مليار جنيه استرليني. يبلغ هذا الدين حاليا نحو 2.5 تريليون استرليني، بينما لم يسجل الناتج المحلي الإجمالي للبلاد أكثر من 2.2 تريليون استرليني، ما يعني أن الحكومة مدينة لكل منزل في المملكة المتحدة بـ90 ألف استرليني. أمام هذه "اللوحة" الاقتصادية غير المريحة أبدا، يعد الانكماش الأخيرة انكماشا معتدلا، يمكن بسهولة أن يتحول إلى انكماش أشد عنفا في الأشهر المقبلة.

لا شك أن جيرمي هانت وزير المالية، الذي تنظر إليه حكومة ريشي سوناك كمنقذ للاقتصاد المحلي أتى في الوقت المناسب، عندما خرجت ليز تراس مجبرة من السلطة، حقق قفزات جيدة في غضون عام تقريبا، إلا أنه يواجه استحقاقات عديدة في الزمن السياسي الحساس، في مقدمتها مصير مخططاته لخفض الضرائب، وبالطبع مستويات الإنفاق العام، ومتى يمكن أن يرحب بخفض مقبول للفائدة من جانب "المركزي البريطاني". فكما هو معروف هذا البنك لا يخضع للحكومة، ويتم وضع سياساته المالية من قبل إدارته المستقلة. علما أن مؤشرات التضخم ليس سيئة بل تعد مقبولة، حتى ولو ظلت أعلى من المؤشرات الآتية من الاقتصادات المتقدمة. استحقاقات 2024 ضاغطة حقا، وستبقى كذلك على الأقل في الربع الأول. وإذا لم يتطور المسار الاقتصادي بالشكل المأمول في الربع الثاني من العام المقبل، فإن الصورة لا شك ستكون أكثر قتامة مما هي عليه الآن.

المشكلة الأكبر حاليا، هي أن يسجل سادس أكبر اقتصاد في العالم، انكماشا في الربع الأخير من العام الحالي، الذي لم يتبق لنهايته سوى أيام، ما يعني أن انكماشين متتاليين سيقودان حتما إلى ركود ما بصرف النظر عن قوته. في كل الأحوال، تشير الدلائل الراهنة، إلى أن الاقتصاد البريطاني سيظل ضعيفا في 2024، وفق صندوق النقد الدولي، ومعه وكالة "ستاندر آند بورز" للتصنيف الائتماني. وهذا يعني، أن معركة الحكومة السياسية والاقتصادية، ستكون صعبة للغاية، قبل انتخابات من المحتمل أن يخسرها حزب المحافظين، الذي يعيش "مواجهات" داخلية قد تؤدي إلى مزيد من التشتت الحزبي.