يطالب السوريون بدولة مؤسسات كبديل عن حكم العائلة، وهي مطالبة موجودة حتى لدى نسبة مرتفعة من أوساط غير معارِضة تقليدياً، ولا غرابة تالياً في إصرار شبيحة العائلة على الإشارة إلى سلطتها بأنها "الدولة". في لبنان اقترن الحديث عن الدولة في العقود الأخيرة بفوضى السلاح في السبعينات أولاً، ثم مع هيمنة سلاح الحزب صارت كلمة "الدولة" مرادفة لمعارضة تلك الهيمنة. وفي الجوار الفلسطيني، مع كل دورة عنف جديدة، يُبعث الكلام القديم إياه عن حل الدولتين، من دون كلام جاد عمّا يعيق الحل العتيد إذا كان ممكناً.
في خلفية هذا التفكير أن الدولة مجموعة من المؤسسات الهرمية الضرورية لبلدان موجودة فعلياً، والضرورية لإنصاف أقوام حُرموا منها مثل الفلسطينيين والأكراد..، والضرورية أيضاً لاحتكار العنف ومنع ظاهرة الميليشيات. تتعدد أهداف الذين يطرحون الدولة كحل، ما يجعل النموذج المرجعي لدى كل فئة مختلفاً عمّا لدى الفئة الأخرى. ويمكن القول أن الدولة المأمولة هي القومية لدى المحرومين منها، والمركزية القوية بما يكفي لمنع هيمنة واستقواء فئة منها لدى ضحايا الطوائف، وهي الدولة الديموقراطية لدى ضحايا الاستبداد. في كل الأحوال، الدولة المرجعية هي النموذج الغربي، سواء كان نموذج الدولة القومية أو نموذج الدولة الوطنية الديموقراطية أو ما صار يُدعى الدولة-الأمة.
عُمْر بلدان منطقتنا مئة عام، والحدود الدولية التي تقبل بها إسرائيل مع لبنان وفق ما يُشاع الآن تعود إلى عام 1923 عندما تم ترسيم نتائج الحرب العالمية الأولى بوصفها حرب إنهاء الإمبراطوريات. إسرائيل نفسها واحدة من نتائج الحرب العالمية الثانية، ورغم أن الحرب كانت في جانب مهم منها صراع القوميات الاستعمارية ونهايتها فقد أتت بكيان قومي جديد إلى المنطقة، كيان يحمل كافة السيئات التي أدت أوروبياً إلى الحرب العالمية الثانية. والأسوأ أن الصهيونية ثم إسرائيل، كنموذج لدولة قومية دينية، كان لهما أثر كبير في صعود التيارات القومية ثم الإسلامية في المنطقة، فلا غرابة في انهيار القومية العربية والقضية المركزية معاً.
دفعت بلدان المنطقة ثمن نجاح تأسيس إسرائيل المدعوم غربياً، ومن الصعب لولا ذلك النجاح تصوّر عسكرة البلدان المحيطة بإسرائيل على النحو الذي حدث، ومن الصعب تصوّر شيوع فكرة الوحدة العربية وعسكرها من دون عدو مباشر بآثاره الملموسة والمستمرة. تالياً، دفعت وتدفع بلدان المنطقة ثمن فشل إسرائيل في التحول إلى دولة طبيعية مضادة "بطبيعتها" للأيديولوجيا التي رافقتها منذ التأسيس حتى الآن، لأن التطبيع لا يأتي باتفاقيات مع حكومات المنطقة، ولا حتى بقبول من شعوب المنطقة على افتراض حدوثه. مصدر التطبيع الأول والأصل هو التطبيع مع الفلسطينيين الموجودين على أراضيهم، سواءً أولئك الذين يحملون جنسيتها أو أولئك المقيمين أيضاً في أراضيهم في الضفة والقطاع، والمحرومين بسبب عدم وجود دولة لهم من المزايا القانونية لوجودهم الطبيعي.
تطبيع إسرائيل مع الوجود الفلسطيني هو حاجة لعموم المنطقة، لا لأنه يعفي الجوار من تبعات الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني فحسب، وإنما لأن هذا التطبيع سينجم عنه نموذج من المحتمل جداً أن يكون مفيداً للجوار بخلاف النموذج القومي الذي أتت به الصهيونية. لا بد للتطبيع من أن يكون عادلاً، والتطبيع مع حقوق الفلسطينيين مستحيل وفق أيديولوجية إسرائيل الحالية ودولتها، أي أنه لا بد من اجتراح نموذج جديد على أنقاض الدولة القومية، وهو شيء مختلف عن حل الدولتين، وأفضل تعبير عن فشل الأخير هو الحديث عن دولة فلسطينية "قابلة للحياة"!.
في الجوار، وصلت دول الجمهوريات العربية إلى نهاية طريقها المسدود، وثورات الربيع العربي فيها مؤشّر كافٍ على ذلك. صعود اليمين المتطرف الإسرائيلي تعبير من نوع آخر عن أزمة الدولة، وهو ما يشجّع على الحديث عن أزمة دولة في المنطقة، أزمة مرتبطة بطابع الدولة نفسه هنا وهناك، بصرف النظر عن الاختلافات فيما بينها.
جانب أساسي مهم من جوانب الأزمة هو فشل هذه الدول في إدارة التنوع السكاني الموجود فيها، وفشل الدولة في أن تكون صمام أمان للصراعات في داخلها وهذه مهمة تقع ضمن أدنى واجباتها، الأسوأ هو استخدام التنوع ضد فكرة التعايش لتكون الدولة تعبيراً عن الهيمنة وتسلط فئة ما. في النتيجة، لا يظهر هناك بين إثنيات وأديان ومذاهب دول المنطقة مَن يؤمن بالدولة ما لم يضمن الإمساك بها، أو يضمن قدرته على الانقضاض عليها عند الزوم. وهذه الخلاصة تعكس وضعاً ميؤوساً منه للدول القائمة، وتعكس حال الريبة تجاه النموذج الشائع للدولة الغربية كنموذج معياري هو الأكثر ديموقراطية.
نستطيع بلا عناء القول أن بلداناً مثل سوريا والعراق ولبنان وفلسطين-إسرائيل... هي مشاريع حرب، والحلول المتداولة هي في معظم الحالات حلول فئوية، ويصعب أن تكون أرضية لنقاش أعمّ ضمن البلد نفسه. هذا لا يرجع فقط إلى طموح كل فئة إلى الاستئثار بالسلطة، بل يرجع جزء معتبر منه إلى غياب نموذج معياري جامع منصف، لأن نماذج الدولة القابعة في خلفية التفكير قاصرة عن أن تكون مرجعاً جاهزاً أو شبه جاهز.
إيجاد دولة مطابقة للواقع السكاني المعقّد على مساحة فلسطين من المحتمل جداً أن يساعد الجوار على تفكير مماثل، فضلاً عن أن السلام في فلسطين سيمنح أملاً بالسلام بين باقي شعوب المنطقة. وليس المقصود بهذا إعفاء باقي شعوب المنطقة من التفكير بدولة مطابقة لعيشهم المشترك حتى يأتيهم المثال المناسب، لكنه إقرار بضعفها وبالتأثير الإسرائيلي على المنطقة الذي لطالما استخدمته أنظمتها بما يفيض عن السوء الذي في الأصل. ونستطيع الاستئناس بالنموذج الإيراني "الصاعد"، فمن المؤكد أن نظام الملالي لم يقدّم مثالاً جيداً لدول المنطقة، والديموقراطية في طهران ضرورية للجوار كله رغم أنها ليست كافية ما لم يفعل الجوار ما عليه فعله. أما الإشارة الأخيرة إلى الديموقراطية فتبقى قاصرة ما لم تتضمن دولةً تطبّع مع الشعوب الموجودة على الأراضي الإيرانية، ومعظمها له امتدادات في بلدان الجوار.
لقد أدت أزمة دول المنطقة إلى أن تكفر الشعوب ببلدانها، وهناك أنظمة لم تقصّر عن القول أن المشكلة في البلد نفسه لا في الدولة-السلطة. وصُرفت جهود فكرية "لا ينقصها الثراء أحياناً" لتبيان تهافت هذه البلدان التي نشأت "بحدودها الحالية" بمعزل عن رغبات سكانها. الواقع في المنطقة يقول أن رمي المشكلة على ما حدث قبل مئة عام لم يثمر، وقد يكون من الأجدى الكفر بهذه الدول وتحرير العقول من منطلقاتها الأصلية، لا التنصّل فقط من مآلاتها البائسة.
التعليقات