مَن استفاد من خراب لبنان؟ أدّى مسار التاريخ خلال ثلث القرن الأخير إلى انهيار لبنان. ومع أن حركة التاريخ حركة معقّدة تلتئم فيها عوامل كثيرة، داخلية وخارجية، موضوعية وذاتية، مدركة ولا واعية، هادفة وعفوية، يصعب التكهن بوجهتها النهائية، فثمة أطراف أساسية ثلاثة استفادت، كلٌّ منها على طريقته، من خراب لبنان. الطرف الأول هو الجماعة السياسية والمالية والإدارية التي نهبت وبددت أموال الدولة اللبنانية طوال ثلث قرن، ثم أتبعته بنهب أموال المودعين في المصارف. الطرف الثاني هو النظام الإيراني، الذي، عبر «حزب الله»، أوصل حدوده البرية إلى حدود الكيان الصهيوني، وحدوده البحرية إلى البحر المتوسط. والطرف الثالث هو الدولة العبرية نفسها التي، مع انهيار لبنان الجامعات والمدارس والمصارف والعملة والبنية الاقتصادية والبنية السياسية والمستشفيات والمطابع والمؤسسات الثقافية والمؤسسات السياحية، وارتباك العدالة والحريات العامة والسياسة الخارجية، وأخيراً دمار المرفأ، انهار منافسها الأوحد بوصفه مركزاً اقتصادياً وثقافياً وحياتياً للعالم العربي، وكجسر استراتيجي للتفاعل والتبادل بين المنطقة العربية من جهة، والغرب والحداثة والعالم، من جهة أخرى.
وفي حمأة التحولات التي يمكن أن تطرأ على الشرق الأوسط في المرحلة القادمة، يُطرَح التساؤل التالي: تُرى أيُّ لبنان تفضّل الدولة الصهيونية على حدودها، وإن لم يكن لها دور في هذه المفاضلة؟
في عالم الاحتمالات متعدد الأشكال والصيغ، ثمة احتمالان يمكن التوقف عندهما:
الاحتمال الأول، أن تقود حركة التاريخ إلى قيامة لبنان، مثلما نهض من رماده عام 1861، ثم عام 1918، فيعود كياناً موحداً، تعددياً، منفتحاً، مزدهراً في مختلف المجالات، تسود فيه قيم الحرية والعدالة والعلم والتفاعل والتسامح، وتقوم فيه روحية وطنية إصلاحية حقيقية، فيعود مرة أخرى «منارة الشرق». سواء عبر إعادة اعتماد «الصيغة اللبنانية» وتطويرها، أو عبر نظام لا مركزي، يولي الجماعات حق التعبير عن نفسها وعن خصوصياتها ضمن الكيان الوطني الواحد.
فمنذ سقوط السلطنة العثمانية حتى اليوم، على مدى قرن كامل من الزمن، لم تستطع مختلف الأنظمة السياسية التي توالت على المشرق العربي (كما على المغرب أيضاً)، تحويل الجماعات المختلفة إلى أفراد - مواطنين، بل على العكس من ذلك اشتدّ حضور الجماعات واقعاً سوسيولوجياً لا يمكن نفيه وتجاوزه بالشعارات الآيديولوجية الطافية على السطح، كما كان عليه الأمر في المراحل الناصرية والبعثية وفي مرحلة صعود الفكر الماركسي ثم الفكر الديني، بلا نتيجة. ولا بد من التعامل مع واقع الجماعات بصورة جديدة أكثر ذكاءً وفاعلية، تخفف عن مجتمعات المشرق الهواجس والتوترات الداخلية التي تشلها.
الاحتمال الثاني، أن يقود مجرى التاريخ إلى إقامة دولة دينية، أو مذهبية، في المكان اللبناني، أو في قسم منه متاخم لحدود الكيان الصهيوني البرّية والبحرية. وهو ما بدأت ترتسم ملامحه أكثر فأكثر منذ سنوات مع تكريس سلطة ثنائي (حزب الله - حركة أمل) على جانب مهمّ من أراضي «لبنان الكبير». والحزب، الموصول عضوياً بإيران، الحائز ترسانة حربية ضخمة، هو اليوم صاحب قرار الحرب والسلم في المدى اللبناني.
بين لبنان التعددي، موطن الحريات، المزدهر، المنفتح على العالم، ولبنان المذهبي، السلطوي، الأحادي، المدجج بالصواريخ، ماذا كانت اختارت الدولة الصهيونية لو كان لها الاختيار؟
هل يمكن لأركان الكيان الصهيوني المفاضلة بين هذا اللبنان وذاك؟ وهل يمكنهم توحيد رأيهم حول ذلك؟ وهل ثمة لديهم «دولة عميقة» تتولى هي التفضيل فيما يتخطى تفاوت الآراء وتناقضها؟ سؤال نظري وافتراضي، تبقى الإجابة عنه نظرية وافتراضية هي أيضاً.
في ظل الحاضر الناتج عن «طوفان الأقصى»، حيث تشتعل الجبهات في غزة والضفة الغربية والحدود مع لبنان، وحيث يجد الكيان الصهيوني نفسه في «معركة حياة أو موت»، على حدّ تعبير بعض أركانه بعد 75 عاماً على قيامه، من المفترض أن تفضّل تل أبيب على حدودها، دولة «لبنان الكبير» التي لا تشكل خطراً داهماً عليها، وإن كانت في حالة حرب وقطيعة كاملة معها، وليس دولة لبنان الثنائي الشيعي، المزودة عشرات آلاف الصواريخ الموجهة إليها.
لكن فيما يتخطى هذه المرحلة المشتعلة التي لا بد أن تصل إلى حلول، وفي الحسابات الاستراتيجية بعيدة المدى، التي لا تأخذ في الاعتبار الجانب العسكري البحت فقط، بل الجوانب الاقتصادية والثقافية والرمزية والحياتية والتواصلية والحضارية أيضاً، لا بد أن يفضّل الكيان الصهيوني وجود دولة لبنانية على حدوده، أحادية وأمنية، لا تختلف كثيراً عن الدول الأخرى المحيطة به، يجيد لغة التعامل معها، مع إدراكه أن القوة العسكرية البحتة، المجردة من جوانب القوة المجتمعية الكثيرة الأخرى، لا يمكنها أن تشكّل قوة حقيقية على المدى الأبعد، بل تبقى معرّضة لعوامل الضعف والانهيار من داخلها. وهي في أي حال مندرجة في محور كبير هو المحور الإسلامي الإيراني، الذي يتعامل الكيان الصهيوني معها ومعه من ضمن محوره الغربي الكبير الذي يقف بشدة إلى جانبه في اللحظة الحرجة.
أما دولة لبنان، التعددية، المنفتحة، المزدهرة، الرافعة راية الحريات وراية العلم والثقافة والتفاعل، المزوّدة بنمط الحياة الفريد المختلف، الموصولة بقوة اغترابية كبرى منتشرة في كل أنحاء المعمورة، القادرة على أن تكون منارة إشعاع وجذب واستقطاب في بيئتها العربية الشاسعة، وجسر تواصل لا يضاهَى بين الغرب والمشرق العربي في كل المجالات، فشأنها آخر. فهي في هويتها، وفي بنيتها المجتمعية والسياسية، وفي رسالتها الآيديولوجية، وفي مدلولها الرمزي، نقيض الكيان الصهيوني، تخالفه في أهم ركائز دولته. هي استثناء بليغ الدلالات والمعاني، لا يمكن إدراجه في أي محور من محاور المنطقة، ولا يمكن تأليب الغرب أو سواه عليه. فهي محور في ذاتها. وبقدر ما يزدهر هذا اللبنان ويتألق بقدر ما تنكشف أمامه وأمام العالم اختلالات الدولة الصهيونية وعثراتها البنيوية.
ثم ثمة أمر بالغ الأهمية، لا يشير إليه أحد، هو موقع لبنان، في ذاكرة العالم ووجدانه العميقين. فلبنان –الذي هو اسم جبل– هو رمز الجمال الأرضي في المخيلة البشرية على مدى آلاف السنين، في أساطير الشرق الأوسط القديم، وفي «الكتاب المقدس»، وفي الأحاديث النبوية الشريفة، وفي المئات من كتب الرحالة الأوروبيين من القرن الخامس عشر إلى مطلع القرن العشرين. من أسطورة غلغامش الملك البابلية - السومرية، قبل نحو أربعة آلاف عام، حيث البحث في غابات الأرز عن «بلاد الخالدين»، إلى أرتور ريمبو هاتفاً في القرن التاسع عشر الأوروبي: «يا لبنانات الحلم»! ويمس ذلك بصورة أو بأخرى مئات ملايين البشر.
تفهم الدولة الصهيونية العميقة هذا اللبنان المتألق ولا تتمناه.
التعليقات