استقرّ رأي كثيرين من الباحثين المسلمين بعد واقعتَي 2001 و2011 (11 أيلول 2001 في نيويورك، ووصول الإخوان المسلمين إلى رئاسة مصر في 2011) على أنّ الجهاديّات مضرّةٌ بالدين، والإخوانيّات مضرّةٌ بالدولة. فالجهاديّ يفترض مضموناً معيّناً للدين يقاتل باسمه كلّ الآخرين بمن في ذلك المسلمون الذين لا يرون ما يعتقده، والإخوانيّ يرى أن لا شرعية للدولة القائمة لدى العرب والمسلمين، لأنّها متغرّبة، ولكي تستعيد شرعيّتها لا بدّ من تطبيق الشريعة، و"جماعة" الإخوان وحدهم هم الذين يؤمنون بذلك ويستطيعونه.

لقد اعتقدنا عندما جرى تجاوز الجهاديّات بالحرب الدولية، والإخوانيّات بوسائل مختلفة، أنّ الدول العربية نجت في معظمها من "قطوع". بيد أنّ "التشيّع السياسي" الذي غطّى مساحات شاسعة، إضافةً إلى التنظيمات المسلَّحة المتحالفة معه أو تملك مصلحةً مشتركةً في معاداة الدولة الوطنية/ العربية، أبقت دول الاستقرار العربي تحت التهديد. وقد عاد الخطر للتضخّم والانفجار تحت وطأة الحرب الإسرائيلية الإباديّة على غزة.

كانت جماعة الإخوان المسلمين المصرية هي الحركة التأسيسية التي أفادت منها عدّة حركاتٍ بالمشرق والمغرب والغرب الأوروبي. ومن هذه الحركات أو عليها خرجت الحركات والتنظيمات الجهادية قبل الحرب الأفغانية وبعدها. فالإخوان، والإخوان المصريون بالذات، هم أصل هذه الفكرة الدعوية والجهادية، التي تنتشر بين الشبّان المتديّنين، وتصارع العالم بأساليب مختلفة، ثمّ تعود نتيجة العجز لمقاتلتنا في ديارنا، والبحث في الإقليم والعالم عن ملاذات للتخفّي والتربّص أو العمل من الملاذات الجديدة لمصلحة الحلفاء الجدد.

طوال ستّة عقود أو أقلّ أو أكثر نجحت هذه الحركات في جمع جمهور معتبر في كلّ البلدان، وهو ما مكّنها من الوصول إلى السلطة من طريق الانتخابات في بلدان مثل مصر وتونس والمغرب، كما أنّه ما أمكن منعها من الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها في مواطن أخرى إلّا بالقوة مثل الجزائر والسودان. فلماذا تنجح الحركات الثورية هذه في اجتذاب الجمهور وتهديد الدول؟

التفسير المباشر من المراقبين الأجانب أنّ ذلك يعود لفشل السلطات العربية، وأوّل ذلك استيلاء العسكريين في عشر دولٍ عربية، والنقص في الديمقراطية ومراعاة حقوق الإنسان، والهزائم في فلسطين. وهذا التفسير المتكرّر سطحي، لا لأنّ العسكريين كانوا شديدي الكفاءة، بل ولأنّ الجمهور الذي انحاز إلى التنظيمات الدينية / السياسية ما انحاز إلى تنظيمات ديمقراطية أو تهتمّ لحقوق الإنسان. ولا شكّ أنّه جمهورٌ ساخط لأسبابٍ متعدّدة بينها عدم كفاءة السلطة أو استبدادها. بيد أنّ البدائل الإسلامية ما أثبتت نجاحاً في السلطة على الإطلاق، فها هم قد حكموا السودان ثلاثين عاماً وتركوه مشلَّعاً وشديد الانقسام والتخلّف. وفي المغرب خسروا الانتخابات بعد عشر سنواتٍ في رئاسة الحكومة. ولذلك لا بدّ من البحث عن سرّ النجاحات النسبية لهذه الحركات الاحتجاجية عبر العقود، في غير أيديولوجية الفشل الرسمي العربي، وكفاءة البديل الإسلامي.

تبدو العلّة في الفشل العامّ لدى الحاكمين ولدى الإسلاميين في وجه الضغوط الدولية على المنطقة في الحرب الباردة وما بعدها، ثمّ في تغوُّل الإيرانيين والأتراك والإسرائيليين وحتى الإثيوبيين على المنطقة العربية. وقد وجد الدوليون أو الإقليميون حلفاء بين الحركات الإسلامية أو بعضها وما يزالون، متجاهلين مبادئهم في الاستقلالية الإسلامية والفرادة والتفوّق الأخلاقي. حتى الجهاديون الذين لجأوا للعنف نتيجة اليأس من الفعّالية والتأثير، وجدناهم أو وجدوا أنفسهم في أحضان إيران أو تركيا وحتى الولايات المتحدة.

إنّ المشكلة إذن في ضغوط الاستضعاف التي تشمل الحكومات والحركات الإسلامية المعارضة. وخلال العقود الثلاثة الماضية ما نجح على الرغم من حرب عقدين عليها غير حركة طالبان في العودة إلى السلطة في أفغانستان.

حدود الدم... بين الإسلام والعالم

قبل العودة للآثار والعواقب مع الإسلام السياسي والإسلام الجهادي، فلننظر إلى الرؤى العالمية والأثر العالمي. في البداية وحتى قبل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة كان الغرب يفرِّق بين حركات الإخوان، والحركات الجهادية، وبلغ الإعجاب من جانب الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بالربيع العربي وبالإخوان في مصر حدود الدعم المطلق. أمّا اليوم ولأنّ حماساً من حركات الإخوان، فقد فقدت كلّ سمعةٍ في الغرب. وبالطبع فإنّ الروس والصينيين والهنود لا يؤيّدون الحركات الدينية، وإن كانت ضدّ الغرب. إنّ أحداث عام 2001 ثمّ أحداث غزة عام 2023 تركت آثاراً سلبيةً جدّاً على الإسلام، باعتباره حسب رؤية صراع الحضارات (1993) ديناً يمتلك حدوداً دمويّةً فاصلةً بين أتباعه وبين العالم. والمعروف أنّه منذ ثلاثة عقود يصعد اليمين في أوروبا، وقد وصل للسلطة في عدّة بلدان، وتقوم عقيدته على رفض الهجرة والمهاجرين وفي طليعتهم المسلمون. ولذلك لدينا الآن مشكلتان لا مشكلة واحدة:

- استعادة ملفّ فلسطين.

- واستعادة ملفّ الإسلام.

وسأعود لذلك.

تبعية تربي أوهاماً..

لا يمكن تأجيل قضية غزة وفلسطين أكثر من ذلك. لا شكّ في شجاعة حماس وذكائها في التخطيط. وقد حدث نتيجة الحرب أمران:

- الشعبية الهائلة لحماس لدى الجمهور العربي والإسلامي،.

- والدعوة العالمية لحلّ الدولتين.

ولا شكّ أنّ شعبيةً معيّنةً استجدّت للحركات الإسلامية غير الجهادية والجهادية. ما كان الجمهور يؤيّد الجهاديين لأنّهم دمويون ولأنّهم لا يهتمّون بقضية فلسطين، وهو الأمر الذي حصل عكسه الآن. فقد أثبتوا أنّهم يهتمّون. إنّما الفرق بين اليوم وعام 2011 أنّ أحداً لا يشعر أنّ الإسلاميين لديهم مشروع دولة، واستقرار، وإنّما صاروا مثل التنظيمات المسلَّحة الأخرى. وإذا كانت لدى بعض العرب والمسلمين حماسةٌ لهم، فإنّ النخب تعلم أنّ هؤلاء مرتبطون بتبعيّةٍ تربّي أوهاماً ولا تصنع حقائق.

حماس ليست "حركة تحرير" والسلطة خردة..

سمعت في فضائية الجزيرة فهمي هويدي يقول بعد غيابٍ طويل إنّ حماساً حركة تحرير!

أين التحرير وحماس تطالب وحسب بتبادل الأسرى؟!

فرأس حربة الإسلاميين تنظيم تابع لا يملك قراره، وتوازن القوى لا يسمح بأكثر ممّا حصل، وترتّب على الواقعة دمار غزة وتهجير سكانها وقتلهم بدون هوادة.

على أنّه لا ينبغي إنكار بعض الحقائق. فحركة حماس المدمِّرة أعادت تنبيه العالم إلى أن لا خروج من الحرب الدائمة على فلسطين إلّا بحلّ الدولتين، والعالم كلّه يطالب العرب بأن يتقدّموا الصفوف من أجل ذلك. وهذا هو مقتضى مقرّرات القمّة العربية والإسلامية التي جمعها وليّ العهد السعودي في الرياض. وستكون لذلك عقبات بالطبع أهمّها:

- أن ليس هناك شريك إسرائيلي حتى الآن.

- والعقبة الثانية: ماذا نصنع بحماس، فلا أحد في العالم، لا إسرائيل فقط، يريدها، لكنّها ذات شعبية في فلسطين وفي العالمين العربي والإسلامي؟

- والعقبة الثالثة أنّ السلطة الفلسطينية صارت خردة ولا أعرف كيف يمكن إصلاحها. قلت في مقالتي بالشرق الأوسط إنّ العالم والغرب على الخصوص يطلب من العرب أيضاً الاعتناء بالإسلام. فكما لا ينبغي ترك قضية فلسطين للتنظيمات المسلّحة التابعة، كذلك لا ينبغي ترك الإسلام سائباً بعد التجارب مع إيران وتركيا وماليزيا وحتى مع الإخوان المسلمين (!).

تنتظرنا مع الهياج الإسلامي الجديد مصاعب جمّة: فالسيطرة الإيرانية مستمرّة، ويزداد تحالفها مع الإخوان ومع الجهاديين، ولذلك هناك رهاناتٌ على استمرار الاضطراب في العراق وسورية وليبيا واليمن والسودان، وزيادة الاضطراب في لبنان... والأردن. سيظلّون يستخدمون الإسلام السياسي والإسلام الجهادي. والعالم يطالبنا بدورٍ في فلسطين وفي المجال الإسلامي. وأيّاً يكن المسعى العربي والمسلك العاقل والعادل والهادئ، فلن يحظى بالاستحسان لدى الإسلاميين القدامى والجدد حتى التقليديين منهم.

الإسلام السياسي والإسلام الجهادي كلاهما مرضٌ لا ينقضي بل يتجدّد مثل السرطان. ولا مخرج إلا بتحقّق ثلاثة أمور: السكينة في الدين، ونجاح تجربة الدولة الوطنية، والعلاقات الصحّية والمسالِمة مع العالم.