مواصلة لعب "بينع بونغ" بين "حزب الله" والجيش الإسرائيلي مستحيلة، فإذا كان الطرف اللبناني لا يقيم اعتبارًا لعشرات آلاف النازحين من بلداتهم وقراهم ولأكثر من 150 ضحية من المقاتلين والمدنيين ولتدمير المنازل والساحات وحرق الأحراج، فإنّ الطرف الإسرائيلي لا يملك هذا الترف، فالمستوطنون يملكون أدوات الضغط على الحكومة والجيش والكنيست، ويهددون بتدفيع الثمن غاليًا لمن يمكن أن يُهمل تضحياتهم أو أن يُضاعفها، ولا يمكنهم أن يقبلوا بحل لا يضمن أمنهم واستقرارهم في المستقبل، بحيث لا يتكرر في المناطق المحاذية للحدود مع لبنان ما سبق أن حصل مع تلك المحاذية لقطاع غزة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

وقد أصبح هذا الهجوم على غلاف غزة في الوجدان الإسرائيلي راسمًا للسياسات والعواطف والهواجس، مثله مثل الهولوكوست!

وبهذا المعنى، فإنّ المقترحات التي يقدمها "حزب الله" على منابره التي أصبحت بمعظمها منابر تأبينيّة، لا تستقيم. يقول "حزب الله" إنّ الحدود اللبنانيّة - الإسرائيليّة ستعود إلى ما كانت عليه قبل السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) بمجرد أن يتوقف الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة. إسرائيل ترفض هذا العرض، فهي تتطلّع إلى أن ينسحب الجناح العسكري لـ"حزب الله" إلى ما وراء الضفة الشماليّة لنهر الليطاني وأن يقام في جنوب لبنان شريط محظور على سلاح "حزب الله" بعمق يصل، بحدّه الأدنى، إلى عشرة كيلومترات!

وتتعرّض الحكومة الإسرائيليّة لضغوط داخليّة، منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أي تاريخ دخول "حزب الله" في حرب "طوفان الأقصى"، من أجل شنّ حرب ضد لبنان تُجبره فيها على تحقيق أهدافها المعلنة، لكنّ الولايات المتحدة الأميركية تحول دون حصول ذلك، على اعتبار أنّ هذه الأهداف يمكن تحقيقها بالضغط الدبلوماسي.

وتدخلت الإدارة الأميركية أكثر من مرّة، في الأسابيع الماضية، لتمنع صدور قرار إسرائيلي يهدف إلى توسيع الحرب على لبنان.

وتملك هذه الإدارة القدرة، حتى تاريخه، على إنجاح تدخلاتها، فالحكومة الإسرائيليّة تحتاج إليها إذا شنّت هذه الحرب، لأنّ مخازن الجيش الإسرائيلي لا تملك الذخائر الكافية لشن حربين متزامنتين على الجبهة الجنوبية (غزة) وعلى الجبهة الشماليّة (لبنان).

وإذا خالفت الحكومة الإسرائيلية رغبة "ضبط النفس" التي تريدها الإدارة الأميركية، فهي سوف تخسر المساعدات والتسهيلات والحماية الأميركية المتوافرة لها في حربها ضد "حركة حماس".

ولكنّ هذا المنع الأميركي لتوسعة الحرب ضد لبنان ليس مطلقًا، إذ إنّ واشنطن تربط التراجع عنه بفشل الضغوط الدبلوماسيّة الهادفة إلى تنفيذ القرار 1701 تنفيذًا صارمًا، وبالتالي فإنّ منع الحرب على لبنان مرتبط بمدى تجاوب لبنان مع الضغوط الدبلوماسيّة، فإذا فشلت هذه الضغوط تحصل إسرائيل على "رخصة الحرب".

وتعاني واشنطن التي تدعمها باريس في الهدف نفسه الضعفَ الكبير للحكومة اللبنانيّة، إذ إنّ هذه الحكومة لا تصلح للعب دور المقرر في هذا الموضوع، بل هي، في أفضل أحوالها، مجرد ساعي بريد بين الدبلوماسية الدولية و"حزب الله"، وتاليًا تفتقد الدبلوماسيّة الدولية قوة ضغط داخليّة قادرة على فهم مصالح الدولة العليا التي ستكون هي في خطر إذا فشلت المساعي السلمية.

وعليه تقدّر الحكومة الإسرائيلية أنّ حظوظ فشل الضغوط الدبلوماسية على لبنان عمومًا وعلى "حزب الله" خصوصًا أكبر بكثير من حظوط نجاحها، ولهذا فهي كلّفت الجيش الإسرائيلي بأن يحدّث دوريًّا الخطة الهجوميّة التي وضعها ضد لبنان، بحيث يكون جاهزًا للعمل بمجرد الانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب البريّة في قطاع غزة، من جهة، وانتهاء المهلة المعطاة للضغوط الدبلوماسيّة، من جهة أخرى.

إنّ الأسبوعين الأوّلين من عام 2024، سيحفلان بكثير من الآلام على الجبهة اللبنانيّة - الإسرائيليّة، وقد يذهب الجيش الإسرائيلي و"حزب الله" من أجل تمتين أوراق القوة إلى حيث لم يذهب أيّ منهما، منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، إلّا أنّ توسعة الحرب لم تأت ساعتها بعد، إذ إنّ أوامرها سوف تنتظر يأس الإدارة الأميركية من الضغوط على "حزب الله" وترسيخ منعها سوف يرتبط بنجاح هذه الضغوط.

إنّ تجربة الإدارة الأميركية مع نجاح ترسيم الحدود البحريّة بين إسرائيل ولبنان تجعل آموس هوكشتاين واثقًا من نفسه.

بالنسبة لعارفي "حزب الله" ثقة هوكشتاين بنفسه لجهة سحب مقاتلي الحزب وسلاحه من الحدود اللبنانيّة - الإسرائيليّة تنبع من فهمه الخاطئ للاختلاف بين طبيعة ترسيم الحدود البحريّة وطبيعة حظر منطقة حيويّة بالمعادلة الإقليميّة عن مقاتلي "حزب الله".

ولكنّ لواشنطن رأياً آخر في ذلك، فهي لا تعتقد أنّ "حزب الله" الذي سيرى نفسه معزولًا عن غزة التي ستلتهي بنفسها، والضفة الغربية التي تصارع من أجل سلامتها، وحوثيي اليمن الذين سينشغلون بالدفاع عن أنفسهم، والفصائل الإيرانية في العراق التي تتكفّل بها القوات الأميركية، سيكون واثقًا إلى حد المقامرة بكل ما يملك في حرب يجهل إلى أين يمكن أن تقوده!