قلت للقلم: هل طافت بأفق خيالك، قُبيل إطلالة العام الجديد، أطياف تطوّرٍ، تغيّرٍ، تحوّرٍ، تحوّلٍ، في الفنون العربية؟ في نهاية المطاف، ولو طال قروناً، لا يمكن أن يظل الفن في بلاد العرب منفصلاً عن الحياة. منطقيّاً، النوم أكثر من نومة أصحاب الكهف، يبعث الصخر على الضجر، والجُلمود على كسر الجمود.

قال: كأنك تمزح. مثالك بأهل الرقيم، ليس سوى ثلاثة قرون، أي يُعيدنا إلى سنة 1723. هل تدري كيف كانت الثقافة في القرن السابق على ذلك التاريخ، أي في القرن السابع عشر؟ في الفلسفة كان جون لوك، ليبنيتز، فرانسيس بيكون، ديكارت، باسكال، توماس هوبز، سبينوزا... في الثامن عشر: فولتير، كانط، مونتسكيو، ديفيد هيوم، روسو، آدام سميث، جورج بيركلي... التاريخ الذي ذكرتَه يعني ثماني سنوات فقط على رحيل لويس الرابع عشر، أي عصر أكبر ازدهار في الثقافة والفنون في فرنسا وربما أوروبا كلها.

في عام 1723 كان باخ في أوج انطلاقته في ألمانيا، وكان فيفالدي متألقاً في إيطاليا، وجان فيليب رامو متوهجاً نظريّاً وإبداعيّاً في فرنسا. القائمة موسوعة، فكم ستذكر وكم ستنسى؟ أمّا إذا قفزت مئة عام إلى سنة 1823، فستكون قبل أربع سنوات من رحيل بيتهوفن، الذي تشكل سيمفونيته التاسعة قمة إيفريست الموسيقى الكلاسيكية، وتكون قد أبحرت مع موتزارت في أروع رحلة في تاريخ الإبداع الموسيقي. هل لتواريخ الميلاد مصادفات عجيبة، فسنة 1770 شهدت ميلاد الموسيقار الأصم، والفيلسوف الألماني الأكبر، هيغل؟

قلت: لماذا أطلت في هذه السير الذاتية المختزلة، فمحورنا هو الفنون العربية، أو الثقافة العربية عموماً، والآمال المعلقة عليها، عسى أن يخرج من قمقمها مارد يرفع هامة الأمّة بين الأمم الصاعدة؟ قال: كنت أظنك تتنبّه للغاية، فقد رميت إلى أن أوروبا، بين بداية عصر النهضة، في 1600 تقريباً، وعام 1723 قد قطعت آلاف الأشواط في الإبداع والفكر والفلسفة والبحث العلمي الأكاديمي والعلوم وبلغت مشارف العصر الصناعي.

قلت: أرجوك، لا تزد على هذا، لا تكدّرني بأن الأمّة العربية من عام 1900 إلى سنة 2023، جاءت بالعجب العجاب، وصارت لعبة كل ريح، ريشة في مهبّ العواصف والأعاصير، وربك علاّم المصير. ها نحن بعد النومة الكهفية، نرى العربي الأعزل إذا أراد أن ينظر إليه جبابرة الأرض كآدمي فقط، لا غير، أحاطت به الأساطيل، ونهشته الأباطيل.
لزوم ما يلزم: النتيجة المغزويّة: البشرى الرقيميّة هي أن بداية اليقظة، ستجعل المغرضين يُملأون رعباً ويُولّون فرارا.