بعد عدة هجمات شنتها ميليشيات الحشد في العراق ضد وحدات ومواقع أميركية، ردت قوات التحالف ضد الميليشيات الإيرانية في العراق وسوريا وكبدتها خسائر ملحوظة. وأعلنت المجموعات الميليشياوية التعبئة الشاملة على جانبي الحدود العراقية السورية بهدف "إنزال الهزيمة بالأميركيين وإخراجهم من البلدين". وعلى رغم من أن هكذا أحداث قد وقعت مراراً في السنوات الماضية، وخرجت نفس التهديدات ضد القوات الأميركية، ولحقتها ضغوطات من كتل الميليشيات النيابية، فالمعادلة لم تتغير إلى حد الطلب الرسمي من الحكومة المركزية في بغداد "بخروج نهائي لقوات الولايات المتحدة، أو إخراجها من كامل بلاد الهلال الخصيب. ولكن الموقف الاستراتيجي الإيراني يبدو وكأنه تغير. لماذا؟ وهل ستقوم حرب ميدانية على التحالف؟ هل انتقلت مؤسسات بغداد إلى المعسكر الإيراني نهائياً؟ وفي النهاية تساؤل نظري، ماذا سيحصل في المنطقة إذا انسحبت القوات الأميركية من الهلال الخصيب؟

قرار بغداد
في السنوات الماضية، وحتى تحت حكومة نوري المالكي القريبة من طهران، هددت حكومات العراق مراراً بالطلب إلى واشنطن بسحب قواتها من العراق، بينما استمر نظام الأسد منذ اليوم الأول لتواجد قوات التحالف على الأراضي السورية، برفض هذا التواجد الداعم لقوات سوريا الديمقراطية. إلا أن اجتياح "داعش" وتمدده إلى مسافة من بغداد وإلى شرق دمشق، خلف صدمة عميقة لدى حليفي طهران وسمحا بالتدخل الأميركي "لتدمير الدواعش". ولكنه مع عهد دونالد ترمب، تغيرت سياسة واشنطن، وبدأت مواجهة مع ميليشيات إيران فتراجعت المطالبة بالانسحاب. ولم تعد هذه الأخيرة إلا بعد عودة سياسة التفاهم مع إيران مع إدارة جو بايدن في 2021.

في المبدأ، ومع عودة المباحثات بين واشنطن وطهران، وتحويل المليارات إلى الجمهورية الإسلامية، كان من المفترض أن لا تهاجم الميليشيات التواجد الأميركي في العراق وسوريا وأن تنتظر تسوية شاملة تنسحب تلك القوات على أساسها. وقد أفادت هذه المعادلة الحكومات العراقية المتتالية التي أرادت الاستفادة من المساعدات الأميركية الكبيرة من ناحية وعدم الاصطدام مع ميليشيات الحشد من ناحية أخرى. واستمرت المعادلة العرجاء لسنوات تتعرض "لانتكاسات مضبوطة" ناتجة عن هجمات ميليشياوية وردود أميركية واعتراضات "حشدية برلمانية"، تليها تسويات حكومية بين الطرفين لإنهاء الصدام. إلا أن التطورات الإقليمية، ولا سيما منذ ٧ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وانفجار حروب الميليشيات الإيرانية ضد إسرائيل، غيّر في أولويات طهران في الهلال الخصيب.

فبدلاً من مناوشات محدودة مع قوات التحالف في شرق وشمال العراق وضبط إيقاعها، يبدو أن النظام في طهران قد اتخذ قرار إخراج القوات الأميركية من المشرق، ويبدو أنه خير الحكومة العراقية بين الارتماء في أحضان "الجمهورية الخمينية"، وبين الرحيل مع الأميركيين. رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أعلن أنه طلب رسمياً من واشنطن أن تباشر بمفاوضات الخروج النهائي من البلاد. ولا يدري أحد ثلاثة أمور: إلى أين ستذهب الإدارة الأميركية في تعاطيها مع "أمر الانسحاب"، إلى أي حد ستذهب حكومة بغداد في الضغط على القوات الأميركية للخروج من العراق، وإلى أين ستذهب إيران في غزوتها المقررة لمناطق الهلال؟ الأجوبة لا تزال غير واضحة، ولكن الأيام والأسابيع، وربما الأشهر الآتية سوف تحسم الصورة.

سيناريوهات
ولكن محللي السيناريوهات الجيو سياسية في مواقع القرار في واشنطن والغرب بدأوا فعلاً بالانكباب عل تكهنات سيناريوهات ما بعد الانسحاب، هذا إذا تم. لأن أميركا دخلت عام الانتخابات وباتت السياسة الخارجية جزءاً متحركاً من السياسة الداخلية وبالتالي الانتخابات الرئاسية بشكل خاص واحتمالات الانسحاب أو المواجهة متساويين. فإذا ضغط التيار الانعزالي بقوة على المرشحين قد تقدم الإدارة انسحاباً. وإذا تعالت الأصوات ضد النظام الإيراني وضغطت قد تتشدد واشنطن وتردع إيران في المنطقة. لا نرى اتجاهاً غالباً حتى الآن، ولكن التحليل الاستراتيجي الدفاعي والاستخباراتي ينظر إلى السيناريوهات الأخطر، وفي هذه الحالة، انسحاب أميركي تحت الضغط الإيراني. ومهما كان صعب التصور، إلا أنه يطرح فوراً أسئلة إضافية حول النتائج الجيوسياسية الشبه كارثية إن تم الانسحاب على الطريقة الدراماتيكية، تقريباً كما حدث في أفغانستان في صيف 2021. والسيناريوهات الأكثر تداولاً تتلخص كما يلي:

1. سيطرة الحشد نهائياً على بغداد وإطلاق حكومة عراقية شبيهة بالنظام الإيراني.

2. تمدد "البسداران" والميليشيات الإيرانية في الأنبار وعسكرة المنطقة إلى أبعد الحدود.

3. حشد عسكري وميليشياوي على حدود الأردن والسعودية.

4. شبه انحلال ميداني للحدود السورية العراقية وفتح شبكات واسعة لطرق سريعة بين إيران وساحل المتوسط.

5. محاصرة كردستان العراق، احتلال واستيطان سهل نينوى وسنجار

6. محاصرة مناطق قسد في شرق سوريا بالتنسيق مع تركيا

7. بناء منطقة صواريخ استراتيجية في جنوب سوريا

8. تحويل لبنان بكامله إلى أم القواعد الصاروخية باتجاه إسرائيل وشرقي البحرالمتوسط.

9. تحويل الهلال الخصيب إلى امتداد جيو عسكري لإيران.

إذا خرجت أميركا من الهلال، ستقوم "الامبراطورية الخمينية". أما تفاصيل كل سيناريو، سنستعرضه في مقالات آتية.