قبل عقدين من الزمن بدأ الحديث عن ترقب انبثاق نظام دولي جديد، بديل عن الأحادية القطبية، التي سادت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. ولأن تفرد قوة بالهيمنة على العالم، نشاز في التاريخ، لم تعمر طويلاً. وقد شهدت نهاية العقد الأول من هذا القرن، بداية النهاية لذلك التفرد.
تاريخياً فإن التحولات بموازين القوة الدولية، لا تتحقق إلا من خلال حروب كبرى يحدد فيها المنتصرون شكل النظام الدولي الجديد، ويفرضون شروطهم على المهزومين
هكذا كان الحال، بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تمت هزيمة السلطنة العثمانية وألمانيا، وفرض المنتصرون معاهدة فرساي، التي أذلت ألمانيا.
وبالنسبة للعرب، وبشكل خاص الجزء الشرقي من الوطن العربي، كانت نتائج تلك الحرب وبالاً على الأمة ووحدتها. فقد نتج عنها اتفاق سايكس- بيكو الذي قسم بلاد الشام والعراق، بين فرنسا وبريطانيا. وشهد عام 1917، صدور وعد بلفور، بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وليكون ذلك بداية تصاعد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والاستيلاء تدريجياً على ممتلكات سكانها الأصليين.
انتهت الحرب العالمية الأولى، بانتصار البريطانيين والفرنسيين، وكانت الولايات المتحدة تستعد أثناءها للخروج من المحيط، في شكل قوة متحضرة ورافضة للاستعمار. وقد دشن الرئيس الأمريكي ويدرو ويلسون، هذا الحضور، بإعلان حقوق الإنسان بمبادئه الأربعة عشر، التي أعلنت أن الاستعمار عمل غير أخلاقي ومقيت، وأقرت حق الشعوب في تقرير المصير.
انعكست نتائج بيان ويلسون، على المسميات التي أطلقت على احتلال بلدان المشرق العربي، فما كان في الماضي يعدّ احتلالاً واستعماراً، جرى تغليفه بمفردات جديدة، هي الحماية والانتداب والوصاية. ولم يتنبه أحد في حينه لمعنى وأهداف هذه المفردات. فقد كانت جميعها تشير إلى أن وجود البريطانيين والفرنسيين في تلك البلدان، هو عمل مؤقت، ريثما يكون اليانكي الأمريكي، جاهزاً لإزاحة حلفائه، والإحلال مكانهم بآليات وأغلفة وأشكال مختلفة.
وكانت الحرب العالمية الثانية، وما شهدته من سقوط لفرنسا أمام الهجوم النازي، وتأسيس حكومة فيشي الموالية للألمان، وأيضاً تعرض بريطانيا، وعاصمتها لندن لهجمات متكررة من الطيران الألماني، وخروجها منهكة اقتصادياً- فسحة لإزاحة الاستعمار التقليدي من المنطقة، وتبني إدارة الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور لسياسة الباب المفتوح، الذي فتح الباب على مصاريعه لتنفيذ استراتيجية الإزاحة.
الحرب العالمية الثانية، انتهت ببروز السلاح النووي، وإلقاء قنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين. وأيضاً الالتحاق السريع للاتحاد السوفييتي بالنادي النووي، وبقاء ذلك حكراً على أمريكا وروسيا لفترة من الزمن.
وقد عنى ذلك، ضمن ما يعنيه، استحالة اندلاع حرب عالمية جديدة؛ لأن معنى ذلك لو تحقق فناءً مبرماً للبشرية، وتحمل ذلك بالتأكيد هو فوق طاقة البشر. ولأن الصراع بين الدول الكبرى، هو أقرب للقانون الطبيعي، فإن البديل عن ذلك هو حروب الوكالة. وهكذا شهدنا هذا النوع من الحروب، منذ الخمسينات من القرن الماضي، في حرب كوريا، وفي الحرب التي دارت بالهند الصينية: فيتنام ولاوس وكمبوديا، وفي الحروب العربية - الإسرائيلية، حيث حارب العرب بالسلاح الروسي، بينما حاربت إسرائيل بالسلاح الغربي.
وضمن ذلك كانت العملية الخاصة التي شنتها روسيا على أوكرانيا، ووقوف الإدارة الأمريكية بقوة إلى جانب أوكرانيا.
ما يجري الآن من عدوان وحشي على غزة، هو جزء من حرب الوكالة. فأمريكا اختارت أن تكون بالعلن شريكاً لإسرائيل، وقد وقفت ضد أي قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي يطالب بوقف الحرب، ووقفت روسيا بقوة إلى جانب وقف الحرب. وانقسم العالم بين مناوئ للعدوان تقوده روسيا والصين، ومعها الدول العربية، وبين مؤيد له بقيادة أمريكا وحلفائها.
إن نهاية الحرب على غزة، ستُسهم دون شك، في التسريع بانبثاق النظام الدولي الجديد، وتحديد شكله والقوة الفاعلة فيه.
التعليقات