أصبح العالم اليوم قرية، والقرية مشتعلة بنيران الحروب، والحروب كانت في الماضي ومنذ ولادتها محطات زمنية قصيرة تلحقها محطات أطول من السلام والراحة و الطمأنينة، وأضحت الحروب اليوم ملازمة لدورة الليل و النهار وتتحرك مع عقارب الساعة، لا استرخاء ولا راحة، مما جعل السلام ينتظر عند باب الأمل، والأمل أقرب الى المستحيل؛ لأن الحروب أصبحت لعبًا ولهوًا مثل الألعاب الالكترونية، والضحايا والدمار مجرد أرقام حسابية بعيدة عن أنظار اللاعب، واللاعب مهووس ينفعل ويتباهى بتحقيق أكبر قدر من أرقام النجاح وأحاسيسه منصبة على الارقام دون الضحايا. وهكذا أصبح كبار ساسة العالم أطفالًا يتلهون بالعاب الحرب وحساب عدد القتلى، بالضبط مثل الألعاب الالكترونية المنتشرة بيد الاطفال الابرياء اليوم حيث يتلهف الطفل الى تحقيق أكبر قدر من القتلى، وألعاب الاطفال هذه تصنع منهم جنرالات وساسة حروب عندما يكبرون ويستلمون المهمات، بعد أن تكون نفوسهم قد تلبدت من أي إحساس بآلام الآخرين، وتهيأت لتنفيذ استراتيجيات القتل والدمار دون أدنى درجة من الرحمة، ومن كان خارج دائرة الحرب لا يبالي بضحايا الحرب.

لا عجب، وكيف العجب!!! إذا كانت أصوات ممثلي الشعوب في الامم المتحدة تنادي بوقف المجزرة في غزة، ولكن ممثلي النخبة العالمية في مجلس الامن و على لسان الفيتو الأميركي والسند الاوروبي يصر على استمرار المجزرة، بل وتتمادى هذه النخبة الناعمة الشرسة بمد السلاح وتهديد الشعوب الاخرى بالويلات إن هي حركت ساكنًا أمام لعبة المجازر على أرض غزة… لقد أصبحت القرية العالمية ساحة تلهو عليها النخبة العالمية الناعمة الشرسة بالعاب الحرب، وإرضاء النفس التواقة الى الانتصار بتحقيق أكبر قدر ممكن من القتلى والدمار، إذ أصبحت متعة اللعب مرتبطة بالعدم لا بالوجود.

وإذا أصبح العالم اليوم قرية، فإن مليارات الناس من الشعوب أصبحت جمعًا في قبيلة، ومن الملاحظ حسيًا وذهنيًا أن هذه القبيلة تفتقر الى العصبية التي تحميها، ولكنها مجرد جمع بشري عظيم سريعة التواصل والاتصال رغم بعد المسافات وتعدد الثقافات، وتتآكلها أنانيات فردية منغلقة على ذاتها همها نفسها دون أي اعتبار لباقي أعضاء القبيلة. لقد جعلَ نخبةُ الكبارِ من قبيلة الشعوب لقمة سائغة، تهين كرامتها وتعبث بحقوقها ولا تبالي بإبادة من تشاء منها، مثلما أبادت أميركا كامل سكان مدينتي هيروشيما وناجازاكي عام 1945، واليوم فإن أميركا ذاتها بدعم اوروبي تحرّض الصهيونية على إبادة كامل سكان غزة و إجبار من يتبقى منهم على الهجرة الطوعية خوفًا والهجرة المدفوعة قسرًا. لقد أضحت القبيلة العالمية ترتعد خوفًا وفزعًا على مصيرها من لا مبالاة الدول الكبرى، وخاصة القطب الاوحد، والتي تتفنن في العبث بكرامة الشعوب وهدر حقوقها، والاستهتار بالقيم الاخلاقية وتعطيلها تقدم الحضارة الى هدفها الانساني، وكل هذه الجرائم ضد الانسانية من أجل التميز العنصري والاستفراد بخيرات الطبيعة ونتاج العمل.

بموازاة اللهو بألعاب الحرب، أوجد كبار لاعبي الحرب أنواعًا أخرى من اللهو لإلهاء الطبقات الأدنى في القبيلة العالمية، وهو اللهو بالاحاسيس ومراكز الشعور وسد ابواب الثقافة على العقل ومن ثم تعطيل نشاط الفكر، فلا بد إذاً من لهو ولهو يلحقه لهو دون توقف… ومن غرائب سيكولوجية الانسان أن اللهو، مهما طال أمده ونشاطه، لا يرهقه بل يزيد في متعته إلى أن يسكر من اللهو، وسكرة اللهو أَلْمَظُ من سكرة الخمر.

اللهو يتراقص، على المستوى العالمي، بين العاب مُرَفِّهَةٍ عديدة وأعظمها شيوعًا وأثرًا مباريات كرة القدم على مدار ايام السنة، وصارت جماهير القبيلة تنسى نفسها وهي تتابع المباريات وتحيي اللاعبين وتنتصر لفريق ضد فريق بروح ايمانية تفوق إيمانية الاديان. والتلهي بضوضاء أصوات مزعجة وصخب تصنف غناءً وموسيقى، ومسلسلات تلفزيونية جلها عنف وجنس وغدر وخيانة وتفاهة لا علاقة لها بالانسان وقضاياه وآماله. وإعلام تتلاعب به نخبة اعلامية موجهة تبث مواد لا تمت الى أخبار صادقة ولا فن راقٍ ولا حوارات ولقاءات جادة. وجل اهتمام الإعلام هو إبراز شخصيات من مجال الرياضة والتمثيل التلفزيوني الواطي، وعرض الإغراءات الأنثوية التي تجود بها عارضات أجساد تتزين متسترة لا بثياب بل بخيوط من الحرير وأغلى صنوف الاقمشة. أما المقابلات مع الضيوف الخبراء فإنها استعراض لعضلات الإعلاميين الذين يصرون على عدم السماح للضيف كي يكمل فكرته بل يسكتون الضيف بتعليق او سؤال لتغيير مجري الفكرة التي أراد الضيف ان يكملها، وعادة ما تكون نبرة صوت الإعلامي حادة و عالية.

وإذا نظرنا بدقة الى مجمل هذه الانشطة، نلاحظ أنها تتعمد إبعاد الناس عن حقول الثقافة المثمرة وعن الفكر الجاد الملتزم وعن الابداع الادبي، وحرمانها من جمالية الفنون بتسميم الذوق الرفيع، وتشجيع الفكاهة الرخيصة المبتذلة لدحر الكوميديا الراقية الباعثة على تلطيف النفوس وإعطاء مساحة فكرية لتقييم العمل الفني.

رغم فاعلية هذه الأنشطة إلّا انها ليست كافية، لأنها في حاجة الى دعم نظري يرقى الى مفهوم فلسفي تنجذب اليه شريحة من أهل الفكر والثقافة، ولا بد من إخراج فلسفي تقوم به عقول طموحة بارعة في فنون اللغة ومهارات اللعب بالافكار والمفاهيم، فكانت ولادة «الفلسفة البراغماتية» الحمالة لمعان متناقضة، وهي أميركية المنشأ. سادة الحروب وجدوا في هذه الفلسفة طريدتهم لاسباغ صفة حضارية على جهودهم العنصرية لسيادة العالم… هذه البراغماتية في الفلسفة لا تختلف عن أختها في السياسة وهي «الغاية تبرر الوسيلة»، والتي رسمها مكيافيلي في كتابه «الامير».

كل هذه الانشطة تتوحد على خط واحد وفي اتجاه واحد على أمل أن تدفع عامة جماهير القبيلة، على مستوى العالم، الى إدمان التفاهات التي تدعم لا شعوريًا استراتيجيات الحرب، وبمعنى أدق ألعاب الحرب. والدرس السيكولوجي الذي يعتمده عشاق العاب الحرب هو أنه عندما تنغرس التفاهة في نفوس العامة فإن العاب الحرب تكون سلسلة، لا معارض ولا مستنكر، وبالنتيجة لا مقاوم… وهذا ما يرجوه ويعمل من أجله المايسترو العالمي الذي يقود فرق الحروب، ولكن هيهات؛ لأن الانسان عرضة، بين حين وآخر ومع ارتفاع حرارة الحروب، للسعات ووخزات داخلية تفرضه الطبيعة البيولوجية والشبكة الحسية وتتحفز من تفاعلهما ملكة الذهن التي تعيد الانسان الى وعيه. وهذا الوعي هو الذي يحرك اليوم شعوب العالم ضد المجازر التي يتعرض لها جمع من القبيلة العالمية في شريط غزة.

العالم اليوم على مشارف تغيير نوعي ومنعطف تاريخي حاد بعد عهد من الحروب سادت وسدت بواب السلام منذ أول بارجة حربية أميركية أجبرت اليابان بتاريخ 14 تموز 1853 على فتح موانئها فورًا أمام الملاحة الدولية (بمعنى أمام أميركا واوروبا)، واضطرت اليابان تحت التهديد العسكري إلى توقيع اتفاقيات مذلة ومجحفة، وكان هذا هو الاختراق الأميركي في زمن الاستعمار الاوروبي وامتد الى الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومنهما حروب الى اليوم في اوكرانيا وغزة، والعيون مركزة على مفاجآت في المحيط البحري حول الصين.