كيف سيكون حال قطاع غزة بعد أن يتوقف العدوان الإسرائيلى، ومن سيحكمه، ومن سيبنيه، وما السيناريوهات التى ترتب لغزة، وكيف سيكون حال الناس بعد هذا الدمار والمآسى والجرائم الإنسانية التى ارتكبها جيش الاحتلال دون حساب أو خوف من عقاب؟!.

والحقيقة أن انتهاء الحرب بات قريبًا، أما ترتيبات ما بعد الحرب فلا تزال بعيدة، وأن أحد أسباب قرب نهاية الحرب عديدة أولها عجز إسرائيل والولايات المتحدة عن تنفيذ مخطط الاجتثاث والقضاء الكامل على حركة حماس، وأصبح الحديث عن إضعاف قدرتها العسكرية ووقف الحرب الكثيفة والانتقال لما سُمِّى الحرب محدودة الكثافة أى التى لا تتطلب عدوانًا يوميًّا يقتل المئات إنما عمليات منتقاة تستهدف عناصر حماس وفق معلومات استخباراتية وتسمح للمدنيين الفلسطينيين بالعودة إلى شمال غزة بعد وضع منطقة عازلة واقتصار مشروع التهجير على أرقام فى حدود ربع مليون نسمه بعد تعثر مشروع التهجير الشامل لأكثر من مليون فلسطينى كما ذكر مسؤولون وكتاب إسرائيليون.

والمؤكد أن تغيير الهدف الإسرائيلى من القضاء الكامل إلى الإضعاف الكامل لحركة حماس بعد صمود وبطولات فصائل المقاومة سيساعد على انتهاء الحرب، خاصة بعد أن أعلن مؤخرًا مسؤولين إسرائيليون أنه يجب وضع أهداف محدودة للحرب قابلة للتحقيق فى أسرع وقت.

أما العامل الآخر الذى قد يعجل بانتهاء الحرب فهو ما قامت به جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية والأداء الباهر والمهنى الرفيع لرجالها من القضاة والمحامين ورجال القانون فى مقابل أداء باهت ومدلس للجانب الإسرائيلى.

والمعروف أن إسرائيل من أوليات الدول التى وقعت فور نشأتها على ميثاق محكمة العدل الدولية ورفض الإبادة الجماعية متصورة أن اليهود لأنهم كانوا ضحايا الهولوكوست والإبادة الجماعية فهم بحاجة إلى حماية دولية لضمان عدم تكرار هذه الجرائم، ولكنها عادت وارتكبت نفس جرائم الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطينى وتضطر لأن تقف متهمة وليست مدعية كما اعتادت.

وقد وثقت جنوب إفريقيا فى دعواها ما اعتبرته أدلة على قيام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بالنظر لعدد الأطفال الكبير الذى قُتل والتهجير ومنع وصول المساعدات واعتبرت أنها «قامت بأفعال محددة بقصد تدمير الفلسطينيين كمجموعة قومية وعنصرية وإثنية»، و«أن إسرائيل فشلت فى منع الإبادة الجماعية بل حرضت عليها»، ودعت فى النهاية إلى اتخاذ تدابير مؤقتة لحماية حقوق الفلسطينيين، وضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بالاتفاقية المتعلقة بالإبادة الجماعية.

وتضمنت الدعوى تصريحات كثيرة أدلى بها كبار المسؤولين الإسرائيليين، سواء من دعوا لقتل الأطفال أو إلقاء قنبلة ذرية على غزة وغيرها من التصريحات التى تحض على الإبادة الجماعية.

إن مجرد تقديم هذه الدعوى إلى محكمة العدل الدولية ينسف بالكامل رواية المظلومية الصهيونية ويضعها لأول مرة فى موضع اتهام، خاصة أنها مست سردية تأسست عليها الدولة العبرية وهى حماية اليهود من الإبادة الجماعية ومن تكرار ما جرى فى الحرب العالمية الثانية، وأصبحت هى المتهمة بتكراره.

تحرك جنوب إفريقيا جاء من دولة امتلكت واحدة من التجارب الملهمة فى تاريخ البشرية وواجهت نظام الفصل العنصرى الشبيه بقوة بالنظام الإسرائيلى بنضال سياسى ومدنى ومسلح على يد حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى بقيادة نيلسون مانديلا الذى حُبس 27 عامًا ونجح بعدها فى إسقاط نظام الفصل العنصرى وتأسيس دولة مدنية ديمقراطية تعانى من أزمات كثيرة ولكنها أخلصت لتاريخها الوطنى ونضالها التحررى.

تحرك جنوب إفريقيا مثّل قوة ضغط حقيقية على إسرائيل، خاصة أنها قدمت أدلة إدانة لا تخطئها العين، وهو سيعنى إضافة رافد جديد يعزز من دور النضال الشعبى فى مختلف دول العالم، خاصة الدول الغربية، من أجل وقف الحرب.

تبقى الإجابة عن سؤال ماذا بعد انتهاء الحرب معلقة. يقينًا لن تقضى إسرائيل على حماس ولكنها ستوقف الحرب بعد أن تكون أضعفتها كما أننا سنصبح أمام كارثة إنسانية غير مسبوقة ومدينة دمر أكثر من ثلثيها وسيصبح سؤال من سيحكم غزة لا يحتمل إجابات جاهزة إنما أفكار مرنة من الوارد أن تتغير تبعًا للمتغيرات الدولية والأدوار الإقليمية وأيضًا الحسابات الداخلية الفلسطينية.

من شبه المؤكد أننا لن نشهد حكومة جديدة لحماس إنما وارد سيناريو السلطة الفلسطينية «المجددة» بالتعبير الأمريكى، أى إصلاح السلطة الفلسطينية وتطوير أدائها؛ حتى تستطيع أن تحكم غزة، وهنا سنصبح أمام تحديات عديدة أولًا إمكانية إصلاح السلطة، ثانيًا حل معضلة عودتها لغزة عقب العدوان الإسرائيلى، ثالثًا رفض إسرائيل لعودتها وترديدها أنها ستسيطر أمنيًا على غزة وستترك إدارة محلية فلسطينية للقطاع.

وهناك سيناريو تشكيل حكومة خبراء «تكنوقراط» مؤقتة لقطاع غزة، وهو ما رفضته السلطة وإسرائيل وحماس، ولكنه سيظل أحد الخيارات المطروحة.

ويبقى سؤال: أى دور لحماس بعد انتهاء الحرب؟

لن تمتلك حماس نفس قوتها العسكرية السابقة وسيتضح أنها فقدت جزءًا كبيرًا منها نتيجة هذه الحرب واستشهاد آلاف من مقاتليها وتدمير معظم أنفاقها، وستفرض إسرائيل مزيدًا من القيود لمنع إعادة تسليحها مرة أخرى، ولكن المؤكد أنه لن تختفى حماس كقوة مسلحة ولن تكسر إرادتها القتالية أيضًا، ولو بقى الاحتلال ستعود فى سنوات قليلة وبطرق مختلفة لبناء تدريجى لقوتها العسكرية وستبتكر أساليب مقاومة جديدة وغير متوقعة مثلما فعلت فى 7 أكتوبر.

لإنهاء القوة المسلحة لحماس يجب أولًا زوال الاحتلال وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وهو أمر رغم أنه يردده الجميع فإنه لا يزال بعيد المنال بسبب السياسات العدوانية الإسرائيلية.

إذا نجح العالم فى الضغط على إسرائيل وقبلت بحل الدولتين فإن هذا سيعنى ميلاد حركة سياسية جديدة محافظة ومتدينة ولكنها ليست جزءًا من حالة حماس ومن تنظيمها القديم حتى لو ضمت كثيرًا من كوادره السياسية، وهو سيناريو شديد التفاؤل لأن منظومة الحكم فى إسرائيل شديدة البؤس وتعيش على التطرف ونشر الكراهية ورفض كل الحلول السلمية.

ستنتهى الحرب قريبًا سواء جلبت رأس السنوار كما تركز حاليًّا إسرائيل أم لا، وستبقى عناوينها المعتلقة بحكم غزة والدولة الفلسطينية ومستقبل حماس بلا إجابات قاطعة.