التكنولوجيا الرقمية بأدواتها الحاسوبية وبرامجها المشاعة، على مستوى العالم ودون أدنى ضوابط، تتقدم بقفزات سريعة تتحدى بها جميع المجالات التكنولوجية الأخرى. فهي تتقدم بسرعة الضوء بحيث يستحيل على العقل الإنساني اللحاق بها، بينما بقية التكنولوجيات مسيراتها محسوسة ويمكن تعقبها وحتى توقع خطوتها التالية، وفارق السرعة يتعدى بكثير اذا قارنا سرعة الفهد بسرعة السلحفاة. والذكاء الاصطناعي هو آخر وليد لهذه التكنولوجيا الرقمية، وحسب ادعاءات ولاة أمر هذه التكنولوجيا، فإن الوليد الجديد هو أقرب الى العلم كله، فمن أراد أن يتبحر في علم من العلوم العديدة المنتشرة فما عليه إلا أن يوجه سؤاله ومطلبه الى هذا الوليد الذكي الجميل، فإنه يحمل الجواب اليقين، وبفضل كرمه المعرفي والعلمي وقدرته الجبارة وسرعته الضوئية فإنه يتكرم بتلبية طلب المحتاج في ثوانٍ قليلة، وهو بصدد تطوير سرعته لتكون الاستجابة الكريمة أسرع. ومن الادعاءات عن هذا الوليد السوبر عبقري أن ذكاءه يتحدى ذكاء الإنسان، وإنه يطور ويوسع مخزونه المعرفي ويحسن من مهاراته الفكرية بتفاعله مع الساعين الى كراماته المعرفية والعلمية والتكنولوجية. في مجال الطب يستطيع هذا الوليد أن يشخص الأمراض بدقة لا تنالها هفوات الخطأ ويحدد الدواء وطبيعة العلاج وكيفية أدائه، وفي الهندسة يعطي الحسابات والرسومات والمخططات دون أن يجهد المهندسون أنفسهم، وإنه ما على المهندسين إلا التنفيذ، وحتى في إدارة التنفيذ الأمثل يمكن لهذا الوليد الفذ أن يعطي مشوراته الدقيقة، أما في الاستراتيجيات العسكرية فالبشرية كلها قابلة أن تتحول الى رمال تحت قدميه. هذا بالنسبة للعلوم الفيزيائية، أما العلوم الإنسانية التي لا تعتمد العقل المجرد لارتباطها العضوي بشبكة المشاعر والأحاسيس، مثل علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة، فإن في الأمر شأن آخر لا يمكن للإنسان أن يسلم عقله وأحاسيسه الى جهاز مادي آلي ويشعر بالثقة والأمان لما يملي عليه هذا الجهاز الذي ابتكره الإنسان، إذ أنه في واقع الأمر مجرد جهاز مصنوع من مواد جامدة لا حياة ولا إحساس فيها ولا منها. ولاة أمر هذا الوليد يؤكدون القدرة الفائقة لجهازهم على تلبية جميع المطالب كانت مادية او معنوية، وهذا أمر في حاجة الى تشخيص فلسفي، أي تفعيل الشك فيه في مختبر الفكر.

بهذه الأوصاف، التي يفيدنا بها ولاة أمر هذا الوليد، فإن الإنسان يجد نفسه بين الخير والشر أمام هذا الوليد الفذ الجبار الذي يملك نواصي العلم كله ومساحة المعرفة كلها، من حاضرها ومستقبلها، وهو بهذه القدرات الأقرب الى القدرة الغيبية قادر أن يقرر مصير البشرية، وإنه متى ما شاء أمرًا فإن إرادته هي النافذة، كان ما كان طبيعة المشيئة... وبمعنى أدق فإنه في مكانة القدر بخيره وشره واستغفر الله!!! والإنسان بهذا الحد القصي من ادعاء العلم والمعرفة يكون قد بلغ عمر النملة التي نما لها جناحان!!!

يتميز عقل الإنسان الحي عن العقل الذكي الذي ابتكره عقل الإنسان نفسه، بملكة الحدس والذي هو تفاعل بين مركز العقل وشبكة الشعور. لا شك أن عقل الحاسوب الآلي أسرع بكثير في حل المسائل الرياضية المعقدة من العقل البشري، إلا أن هذه ميزة ابتكرها الإنسان في الآلة خدمة له وليس سلطة عليه، مثل أية آلة بدائية كادوات الحفر للحرث بدل غرس اليد في التربة، وأدوات الحفر لا شك أسرع بكثير من اليد المجردة، مما يعني أن سرعة أداء الآلة لا يعني تفوق الآلة على الإنسان الذي ابتكر الآلة، وسرعة وقدرة العقل الآلي إن هي إلا خدمة للعقل الحي الذي ينبض بالحس ويسترشد ببصيرة الحدس. إضافة الى ملكة الحدس فإن الإنسان يتميز بالقدرة على الملاحظة وهي من نعم الحس عند الإنسان، وهذه القدرة الحسية هي التي مكنت الإنسان من اكتشاف قوانين الطبيعة، الأرضية منها والكونية، وهي التي مكنته من بناء ثقافات متعددة حسب التوزيع الديموغرافي وتعدد اللغات، وهي التي أوحت اليه بفتح أبواب من علوم مختلفة، وكان لها الدور المحوري في بناء صروح الحضارات... جهاز عبقري دون إحساس يستحيل عليه أن يولد ثقافات ويبني حضارات، فحذارِ من الانصياع وراء جهاز سحري صنعته أيادٍ بشرية تهدف الى خدمة ذاتها، وما هذا الجهاز إلا عبد آلي طوع صانعيه.

ما من شك بأن بين العلماء والمفكرين والفلاسفة من وضع هذا الجهاز في مختبره الفكري لمعاينته بكيمياء الشك، لأن هذا الجهاز قد تم تقديمه الى البشرية على صحن من التهويل والتعظيم، وكيف أن العقل الحي بالإحاسيس عاجز أمام هذا الجهاز المادي الذي رفعوه الى مكانة القدر الميتافيزيقي. وهذا النمط من التقديم غير الطبيعي، الى درجة اللا معقول، يثير الدهشة والشك، وهذا لا يعني مجرد التحقق من مصداقية الادعاء، ولكن ضرورة اكتشاف الهدف من هذا الجهاز وما هي الجهة المستفيدة وما طبيعة الفائدة وما هي الجهة او الجهات المستهدفة. لا شك أن وسيلةً معرفية تعريفية بهذا القدر من العطاء وتيسير المهمات والخطط العلمية والإدارية أن يكون لها موضع للتداول والاستفادة من قبل الناس أجمعين، وهذا جانب من الهدف الرئيسي لابتكار برنامج الذكاء الاصطناعي، إذ جميع الناس سيكونون تحت وصاية هذا البرنامج بخيره المعلن وشره المستور!!!

اسأل الجهاز ويأتيك منه الجواب اليقين، واطلب منه مقالاً او محاضرة ويلبي الجهاز الطلب في لمح البصر، واطلب منه كتابًا، ويأتيك الكتاب في حلة أدبية كاملة. ومع كل هذا الكرم الفكري لا يبقى أمام طلاب المدارس والجامعات سوى الركوع أمام هذا الجهاز السحري ورفع الأكف طلبًا منه بما يحقق لهم النجاح والحصول على الشهادات الى مستوى الدكتوراه، ويا ويل التحصيل العلمي والمخرجات التعليمية أمام اختبارات الواقع العملي، وأعتقد أن في هذا الجانب كذلك جزئية من الشر المستور!

ولاة أمر الذكاء الاصطناعي قدموا إنجازهم العلمي-التكنولوجي على أنه عقل محظ، شأنه شأن العلم، حيادي لا يتخندق في الصراعات التي تمزق الناس، ولكن بعد إجراء امتحان بسيط عليه تبين عكس ذلك. جلست شابة في مقتبل العمر أمام جهازها الرقمي ودخلت برنامج «الذكاء الاصطناعي» وطرحت عليه مطلبين. المطلب الأول: مقال عن إدانة روسيا لما تقوم به من مذبحة ضد الإنسانية في أوكرانيا، فأعطى الذكاء الاصطناعي مقالاً مفصلاً وإدانة واضحة ضد روسيا وعرضًا للآراء التي تتناولها وسائل الإعلام الغربية.

المطلب الثاني: مقال عن إدانة اسرائيل لما تقوم به من مذبحة ضد الإنسانية في غزة، فاعتذر الذكاء الاصطناعي عن إدانة إسرائيل، وأنه ليست هناك مذبحة في غزة، وإن المعلومات المتداولة غير صحيحة وهي محض افتراء، ولم يدخل في تفاصيل أخرى، رغم أن شعوب العالم تدين المذبحة الاسرائيلية في غزة، وإنه على أرض الواقع ليست هناك أية مذبحة في أوكرانيا.

هذه الشابة، في الواقع، قامت بعملية اختبار بسيط وواضح، وأثبتت نتائج الاختبار أن «الذكاء الاصطناعي» مبرمج حسب إرادة صانعيه، وأن الكم المعرفي الذي يتم تخزينه في هذا البرنامج، إضافة الى موسوعة المصطلحات من جميع العلوم، مبرمجة ومحددة فيه حسب المفهوم الفكري والموقف السياسي بما يتناغم والمصالح العليا لولاة أمر هذا الوليد السوبر عبقري.

خلاصة القول عن منافع الذكاء الاصطناعي إنه مثل الخمر والميسر ويصدق فيه قول القرآن الكريم: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا».