الدولة والدين والتاريخ ثالوث يلقي بظلاله على نمطية الدولة الوطنية الحديثة. إشكالية العالم العربي تكمن في استيعاب أن التطور السياسي سمّة طبيعية لابد وأن تأخذ سياقها الزمني الطبيعي. في ثوابت الوقائع أن الإسلام كدين سبق الدولة في المفهوم العربي، كونه ديناً نزل على العرب في مكة.

الأهمية الفاصلة أن يتم القطع الكامل بين نشأة الدولة الوطنية الحديثة، وما سبقها من تكوينات تاريخية لم تشكل مفهوم الدولة بأبعادها المعاصرة القائمة على قواعد القانون الدولي ومحدداته، في تعريف الكيانات السياسية التي تكونت مع نهاية الحرب العالمية الأولى حتى نشأة عصبة الأمم. معضلتنا منذ نشأة الدولة الوطنية العربية في الوقوع بفخ تعريف الوجود الديني في الدولة، فالدين ضرورة لازمة للمجتمعات وكذلك الأخلاق، ولكن هل على الدولة أن تقبل بوصاية رجال الدين؟ المشكلة في أن يكون لرجال الدين وصاية على الحكومة والمؤسسات، منذ أن انتهت هيمنة الإمبراطورية العثمانية على الجغرافيا العربية، وظهرت معها تيارات دينية صاغها جمال الدين الأفغاني، ثم أنها تلقفها حسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان» في 1928.. ما قدمته الجماعة كان أن الإسلام ليس مجرد ديانة بل كذلك أيديولوجية سياسية.

هناك وقعنا في الفخ الكبير، فمع هذا التعريف المشمول بكل شيء لم يعد في الأصل معنى لسلطة الحكومة ما دامت يفترض أنها لرجال الدين. ومع تمتع هؤلاء الرجال بالسلطة وتلابيبها كرسّوا فهماً في المجتمعات أن فصلهم عن السلطة يعني فساد الحكم، وبه تفسد الدولة ومؤسساتها ورجالاتها، لم يكن ذلك عسيراً على سيد قطب وغيره ممن عمقوا فكرة الحاكمية باعتبارها أصلاً من أصول الحكم في الإسلام.

كل هذا جاء مع نشوء الدولة الوطنية الحديثة، ومعه يجب أن يتم دائماً التذكير بضرورة القطيعة، حتى نخرج من دائرة الأفخاخ التي أوصلت المجتمعات لمرحلة تكون الدولة بيد رجالات الدين الذين تركوا مهامهم في تعريف الناس بالأخلاق والقيّم، وانخرطوا في المؤسسات فلا هم نجحوا في تنمية مجتمعاتهم، ولا هم قاموا بما يجب عليهم من واجبات أساسية.

فصل السلطات أصل الدولة وكيانها، هذه قاعدة القواعد وحجر الزاوية، حتى وإنْ حاولوا العودة إلى الاستغراق في تعريف «العلمانية» باعتبارها منهجاً غربياً مستورداً، فهي وإنْ كانت فلسفة سياسية مستوردة شأنها شأن كل ما استورده العرب منذ قرون بعيدة، استفاد الرواد الأوائل من ترجمة كتب الرومان والفرس، وأنتجوا معارفهم وعلومهم التي سادت في عهود مضت، وكذلك في الأزمنة المعاصرة التي يستورد فيها العرب من الغرب والشرق أدويته وأطعمته وملابسه ومركباته وحتى هواتفه التي منها يتصدر ذات رجال الدين حياة الناس فيحرّمون ما شاؤوا وما يخشون منه، ودائماً يكفرون العلمانية، ويعتبرونها رجساً من عمل الشيطان، تخويفاً للمجتمعات التي جعلوها تعيش إرهاباً فكرياً عابراً لا يكاد يفترّ أو ينقطع.

«عربنة العلمانية» بما يجب أنه فصل بين مهام رجال الدين والدولة، تحديد الاختصاصات سيخلص العقل العربي من الالتباس الذي لطالما أوقع الدولة الوطنية ضحيةً لتأويلات رجال الدين لمصطلح سياسي اعتمدوا شيطنته بإخضاعه كرهاً وغصباً لما يحقق لهم السطوة، وكذلك ملايين الخريجين من الجامعات كل عام أصبح بعضهم يعيشون رهاباً فكرياً ليس له أي معنى موضوعي.

إجبار رجال الدين على العودة إلى مهامهم الوعظية لحماية الأخلاق مهمة وطنية رئيسة فيها صلاح للدولة ورعاياها، وتصويب لمواقع المتخصصين في أجهزتها ومؤسساتها، بالقطيعة يحصل كل شيء صحيح فمن الخطأ أن تبقى الأجيال أسيرة تعريفات خاطئة لرجال خاطئين.