بينما كانت معظم التحليلات تركز على توقعات توسيع نطاق المواجهة الراهنة في غزة، إذا بالجميع يفاجأ في الأسبوع الماضي بتفجر بؤرة جديدة للصراع في آسيا بين إيران وباكستان، كانت إيران هي المبادر بإشعال فتيله بضربها مواقع لما يُسمى «جيش العدل»، وهو منظمة إيرانية بلوشية ذات نزوع انفصالي، وسبق أن قامت بهجمات في الداخل الإيراني. وكان متوقعاً أن ترد باكستان على الضربة، وكان الرد الأول دبلوماسياً باعتبار باكستان العمل الإيراني انتهاكاً للقانون الدولي، وخرقاً لروح العلاقات الثنائية بين البلدين، كما قامت باستدعاء سفيرها في طهران، ثم قامت بعد يومين من الضربة الإيرانية بضربة عسكرية مماثلة، وسادت المخاوف من تصعيد جديد لا تنقصه المنطقة، لكن البلدين أظهرا بعد ذلك رشادة واضحة كان يُفترض أن تسود منذ البداية، وتبادلا عبر اتصال بين وزيري الخارجية الرغبةَ في عدم التصعيد وعبارات التقدير المتبادل للعلاقات بينهما.

وتثير هذه التطورات مجموعةً من الأفكار يناقش هذا المقال ما يتعلق بسببها الأصيل. ويعود هذا السبب إلى فكرة مهمة في تحليل العلاقات الدولية، وإن كان الضوء لا يُسَلَّط عليها بما يكفي، وهي فكرة عدم تطابق الحدود السكانية مع الحدود السياسية، بمعنى أن جماعة بشرية محددة قد تكون قبيلة أو طائفة أو أمة أو غير ذلك تشاء ظروفها أن تخضع لسلطة جماعة مغايرة لها في الهوية في دولة بعينها، ومن هنا ينشأ نزوع لدى الجماعة الأولى للانفصال عن الجماعة الثانية، وإقامة كيان سياسي خاص بها. ويتعزز هذا النزوع إذا مورست ضد تلك الجماعة سياسات تمييزية تنشأ عنها أوضاع تنطوي على نوع من عدم المساواة السياسية والتهميش الاقتصادي.. إلخ.

ويتفاقم تأثير هذه السياسات التمييزية إذا كان الإقليم الذي تعيش عليه هذه الجماعة زاخراً بالثروات التي لا تنال الجماعة نصيباً عادلاً منها، ومن هنا تتفجر الأوضاع أولاً في صورة احتجاجات مدنية تتطور لاحقاً إلى عمليات مسلحة تقوم بها منظمات تضم مقاتلين من أبناء الجماعة قد تفضي لحرب أهلية شاملة. وتنطبق هذه الأفكار بوضوح على الأمة الكردية التي تتوزع أساساً على أربع دول في منطقة الشرق الأوسط، هي تركيا والعراق وإيران وسوريا، وفي كل هذه الدول الأربع انطبقت هذه الأفكار وأفضت إلى عنف داخلي بدرجات متفاوتة كان أشدها في تركيا والعراق. ولم يكن الإقليم الكردي في العراق يحصل على نصيب عادل من الثروات النفطية الموجودة فيه. وينطبق التحليل ذاته تقريباً على حالة البلوش في كل من إيران وباكستان، فالجماعة البلوشية موزعة بين البلدين بالإضافة إلى أفغانستان. وسواء أكان السبب هو الهوية أم التهميش السياسي والاقتصادي، فإن النزوع للانفصال موجود في الجماعة البلوشية في البلدين، وثمة منظمات مسلحة تعمل على تحقيق هذا الهدف وقد قامت بعمليات ذات طابع عسكري أدت إلى خسائر في الأرواح. وإذا كان هذا هو السبب الأصيل لتفجر العنف، فاللافت هو الوسيلة التي اختارتها إيران لإدارة الأزمة، أي استخدام القوة دون تنسيق مع الطرف الآخر (باكستان) الذي يفترض أن مصلحة مشتركة تجمعها معه تتمثل في مواجهة حركات البلوش الانفصالية. ويستحق هذا الموضوع أن تُخصص له المقالة القادمة.
*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة