أرى أن معظم الصراعات بين الدول هي في الأساس نتيجةً لسبب واحد فقط، وإنْ كانت تظهر بمظاهر وأنماط تبدو مختلفة، ولكن في جوهرها هي ليست كذلك، وهي متماثلة بغض النظر عن الجهات الفاعلة المعنية أو دورة حياة الصراع. إذاً لا وجود لاختلافات جوهرية بين الصراعات بين الدول من حيث ما ستؤول إليه الأمور في النهاية، والاختلافات التي يعتقد بتواجدها يمكن التعبير عنها من حيث الأسباب والقضايا والمشاركين وتاريخ الصراع، وقد يكون لكل من هذه الاختلافات عواقب توجيهية لإدارة الصراع الدولي ومع ذلك، لم يتم القيام إلا بالقليل من العمل الفكري والبحثي حول كيفية تأثير سمات الصراع هذه على إنهائه، وحقيقة أن هناك صراعات مستعصية أو دائمة ولن تزول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وذلك في بعض أوجهها على أقل تقدير، وهو الثابت الرياضي الذي يجب عدم إغفاله في أية معادلة لحل النزاعات القائمة في العالم والمتوقعة، دون إغفال العوامل الخفية أو غير المباشرة في كل صراع، والتي لا يتم استكشاف بعضها لعقود طويلة، ناهيك عن دور متغيرات الطبيعة والبيئة والتطورات العلمية والتكنولوجية في تلك الصراعات.

طالما هناك مصالح دول وعلاقات دولية، فإن الحديث عن الصراع الدائم أو المستعصي، والذي يعني ضمناً الاهتمام بالجوانب الطولية والديناميكية للعلاقة هو المنطق الأقرب للصواب في شؤون العلاقات الدولية، وخاصةً أن الصراعات لا تظهر في سلسلة من الأحداث الفردية غير المترابطة، حيث نعلم أن للصراعات ماضياً قد يلقي بظلاله الثقيلة على الأطراف في الصراع، وأرى أن سياق الأحداث والمؤشرات والتوجهات العالمية القائمة والمستشرقة والتي يتنبأ بها تشير إلى أن الصراعات القادمة لن تقتصر على طرفين فقط، وستكون الأسلحة فيها مادية ومعنوية وأغلبها تطلق في خلفيات غير مرئية، وتعتمد على المعرفة الفائقة لقدرات الكائن البشري المرتبطة بالتكنولوجيا فائقة الذكاء، وهي مزيج بين قدراته وقدرات الأنظمة والتطبيقات التكنولوجية الرقمية.

كما سيستمر التنافس الحاد في البحر الأحمر وبحر العرب والخليج العربي والبحر المتوسط وفي القرن الأفريقي والمنطقة ككل، وستستغل دول العالم والمنطقة الكبرى الإحداث الحالية للحد من المخاطر والتهديدات التي تواجه مصالح أمنها القومي وتأمين مجالها الحيوي بكل الوسائل المتوفرة لديها من قدرات وموارد عسكرية وغير عسكرية، ولربما الشروع في تصعيد مفاجئ في مناطق نفوذ لا تريد أن تخسرها. كما ستعلب الورقة الاقتصادية دوراً محورياً في صناعة خريطة الشرق الأوسط الجديد، وحقبة من أحداث الوكالة والضربات العسكرية الإعلامية التي قد تزج بكل الأطراف في قلب الحدث والتعرض لعمليات تثير الرعب وتعيد من خلالها أميركا تمركزها في العالم وصراعات تبدو حقيقية، بينما العدو فيها واقعياً ليس سوى شريك ينتظر مكاسبه، ومن هم في الوسط والوسطاء والأذرع مجرد ضحايا لأضرار جانبية في صراع أكبر من مذهب وقومية.

ومع كل شعار يرتفع ومشهد لنزاع مسلّح تفقد المنطقة جزءاً من سيادتها، وقضاياها الرئيسية لن تبقى هي المحورية، حيث يبرع الكبار في فن إدارة الصراعات الاستراتيجية، والخاسر الأكبر هو من يقف على الهامش إلّا إذا وعى عمق الفخ المنصوب له، ولن تستطيع تلك الدول التملّص واتخاذ موقف محايد بعد أن يتم التلويح بسلاح حتمية وجود دولة نووية جديدة في المنطقة كواقع، فالأمر أكبر بكثير من مجرد القضاء على حركة مسلّحة مارقة والدفاع عن الأمن القومي لدول بعينها، والسلام الدولي وانسيابية سلاسل التمويل والإمدادات العالمية.

هناك تطورات عديدة سوف تشهدها المنطقة في الفترة القادمة، وسيفهم الجمهور من خلالها في منطقة الشرق الأوسط الأبعاد العميقة والمتشعبة لقضية غزة والهلال الإسلامي ككل، والضغوط التي سوف تمارس لتغيير الخريطة الجيوسياسية والمجال الحيوي للتحالفات والدول الكبرى في العالم، ولحدوث ذلك لابد من إدارة الأزمات بخلق أزمات عابرة لمفهوم الزمان والمكان لتكون بمثابة حفر كونية تبتلع التحديات والأزمات الصغرى فيها كالثقوب السوداء.