القول الجميل الشائع بين الناس إن «الإنسان أخو الإنسان»، بينما الفعل القبيح السائد بين الناس أن «الإنسان عدو الإنسان». الفعل يناقض القول ويدحضه ويجعل منه أضحوكة مبكية، وهكذا دأب الإنسان بنفسيته المعقدة يظهر الخير ويبطن الشر، أمام الناس تقي وفي خلوته شقي، وما هذا التعقيد والتناقض إلا ثمرة من دهاء العقل.

في الحوزة الامبراطورية في روما قبل أكثر من ألفي عام كان الصديق المقرب إلى القيصر، الرجل النبيل بروتوس يتبسم وهو يلاقي صديقه القيصر، والقيصر مطمئن إلى صديقه وما ظن قط أن الغدر سيأتيه طعنات من بروتوس وزمرته حتى قال صارخًا متألمًا من الغدر لا من الطعن في لحظة لا رجعة منها: «حتى أنت يا بروتوس؟! إذن فليمت القيصر»، وما القيصر وحيدًا في هذه الدراما التراجيدية التي تجمع بين الصحبة والغدر في صديق لدود.

«حتى أنت يا بروتوس؟!» صرخة تدوي في كل بقاع الارض وعلى مر الأزمان، وقيصر الضحية ليس الوحيد، ولا بروتوس الغدار هو الغدار الوحيد. قيصر وبروتوس ثنائي الضحية والغدر، قصة تتكرر على مدار الزمن قبل قيصر وبعد بروتوس. وللشاعر المسرحي المبدع شكسبير فضل معنوي لتصوير هذه الواقعة التاريخية في مسرحية اضافها إلى كنزه الادبي، واعطى الواقعة بعدًا دراميًا في اطار ادبي جميل رغم قبح الواقعة. وشكسبير في هذا العمل الادبي سبر غور النفس البشرية، وكيف ان المصالح الشخصية هي الدافع الاساس لدراما الغدر والضحية، وأن المنتقم للضحية لا يغفل عن مصالحه الشخصية قبل أن يجف دم الضحية، ففي نهاية الفصل الاخير من المسرحية بعد انتهاء مهمة الانتقام يوجه انطونيو كلامه إلى أوكتافيوس قائلاً: «... ادعو الجنود إذن إلى الراحة والى السلم من جديد. ولننصرف ونقتسم فيما بيننا أمجاد هذا اليوم السعيد». والأمجاد كانت غنيمة تقاتل من أجلها اللذان تعاونا على الانتقام، فكانت الغلبة لاوكتافيوس الذي استحوذ على الأمجاد كلها واصبح امبراطور روما العظيم، وكأن عملية الانتقام كانت فرصة ووسيلة لبلوغ هدف أعلى. ومن ابداعات شكسبير في هذه المسرحية أنه ترك اثرًا عميقًا في نفوس المشاهدين والقراء بجملته الخالدة «حتى انت يا بروتوس»، التي أصبحت مثلاً تتداوله الأجيال بعد شكسبير، وهذا يعد من أبرز ابداعات الأدب... قالها أم لم يقلها القيصر، فإن القول ليس ببعيد عن دهشة القيصر وهو يتلقى طعنات من صديقه المقرب، إذ ماذا كان بإمكانه أن يقول غير «حتى أنت يا بروتوس؟!!».

من هم أؤلئك الذين تآمروا على قتل القيصر وقتلوه؟ تآمر على قتله أربعون من أعضاء مجلس الشيوخ على رأسهم الصديق الأقرب إلى القيصر، وهو بروتوس.

لم يكن أحد من الأعداء ولا من المتذمرين من عامة الشعب، بل أقرب الناس إلى القيصر، إنهم أصحاب النفوذ والمصالح في الامبراطورية، والذين كانوا لصيقين بقيصر مثل الرداء الذي كان يلبسه. كانوا من أقرب الناس إليه، ومن المفترض انهم كانوا من أهل الثقة عنده، وقيصر والذين في مكانه ومكانته لا يطمئنون إلى أي أحد كان وحتى أبنائهم وزوجاتهم، ولكن قيصر رغم الثقة أو عدم الثقة ما كان له أن يجلس على عرشه دون سند من غيرهم. قيصر هو صاحب المصلحة الاعظم وتحوم حوله حاشية من أصحاب مصالح تتشابك مع مصالح القيصر، ولكن لبعض أصحاب المصالح طموحات لمصالح أعلى، وهم ينتظرون على نار غير هادئة ويتربصون ويتريثون الوقت المناسب للغدر في الظرف الأنسب. أصحاب المصالح شعروا بأن مصالحهم في خطر بعد أن أوعز اليهم حدسهم وبعض المؤشرات المحسوسة بأن القيصر مقبل على تغيير كبير في نظام الحكم ينتقص من سلطات مجلس الشيوخ. وكان مجلس الشيوخ بمثابة شبكة المصالح التي تستند عليها المصلحة العليا للقيصر، وبمعنى آخر فإن وضع القيصر ما كان مستقرًا، بل كان محط أنظار كل عضو في المجلس، وخاصة الاعضاء الاقرب إلى القيصر، وهذا ما حصل فعلاً.

الطموحات العالية هي التي تغدر بالأباطرة والملوك وباصحاب المصالح الكبيرة، وكان من كان الطامح وكان من كان المستهدف بالغدر من الطموح، فالطامح إلى أعلى عليين في المكان والمكانة لا يفرق بين غريب وقريب، ولا بين صديق وأخ، ولا بين ابن العبد وابنه الحر. الطموح العالية تعلو فوق كل علاقة، وتدوس على جميع القيم الاخلاقية والتعاليم الدينية. إن هدف الطموح العالية أقدس من كل العلاقات بين الإنسان والإنسان، وحتى بين الأب وابنه، وبين الابن وأبيه. «حتى آنت يا بروتوس!» ليست بالقصة الغريبة ولا الوحيدة، وليست بتاريخ روماني عفى عليه الزمن، بل إنها قصة الطموح العالي ما دام هذا الطموح باقيًا في نفوس البعض من الناس، وخاصة ذوي جاه الثروة وجاه المكانة، وبالأخص النخبة التي تحوم حول مركز السلطة. كلما اقتربت المسافة بين الإنسان والمغريات، التي تدغدغ النفس، كلما اكتسب الطموح زخمًا واشتدت سطوة الجرأة لمد اليد إلى تلك المغريات، وهذه المعادلة هي التي طعنت القيصر والقياصرة قبله وبعده، وغدر الطعن القيصري باق على غابر الطموح مادام الإنسان باق على كوكب الارض.

من أبشع قصص الغدر ما حصل قبل ما يقارب الخمسمائة عام في الديوان الهمايوني العثماني (الباب العالي)، عندما اصبح القاتل والمقتول من ضحايا الغدر، إذ كان القاتل هو الأب والسلطان، والمقتول هو الابن وولي العهد. إنها من الأحداث التي تبدو نادرة ولكنها ليست مستحيلة، والتاريخ خزينة من أحداث تسللت من أعماق المستحيل إلى سطح الواقع. إنها قصة السلطان سليمان القانوني وابنه وولي عهده مصطفى، وانحشرت بينهما الأكاذيب والدسائس من أقرب المقربين الطامحين، ما جعل السلطان يهاب من ابنه على كرسيه السلطاني ويأمر بقتله خنقًا امام عينيه على يد جلادين نفذوا أوامر السلطان. ومن المفارقات أن مؤامرة الغدر هذه قد حصلت في الزمن الذي كان فيه شكسبير نشطًا يكتب مسرحياته الخالدة وبينها مسرحية «يوليوس قيصر»، ولو كان لشكسبير ان يكتب مسرحية عن مؤامرة الغدر السلطاني في ديوان همايون العثماني لعبر عما جال في في نفس المقتول بهذه الكلمات وهو يشخص النظر إلى ابيه السلطان: «هل أنجبتني لتقتلني؟ ليتني ولدت ميتًا!».

ميكيافيلي أوضح في كتابه «الأمير» أن لا علاقة بين السياسة والأخلاق، وأن من يريد أن يصل إلى السلطة أو يريد لسلطته أن تستمر لا بد له أن يتحدى بقوة أي عائق أخلاقي أو ديني، ويعمل على تنفيذ ما تمليه السياسة، وكيف أن السياسة تسير في اتجاه معاكس للاخلاق. هذا هو عالم السياسة، فمن كان ذو طموح إلى السلطة وأراد ان يتبوأ موقعًا على خريطة السياسة، أي امتلاك تلك السلطة التي تمكنه من التحكم في الناس، فإن عليه أن ينسى من هي أمه ومن هو أباه، فالكل، بمن فيهم أبويه، إذا كانوا عائقًا أمام طموحه السياسي فإنهم يضحون ضحايا الغدر بهم... فإن الغاية تبرر الوسيلة، مهما كانت طبيعة الوسيلة من خزي وعار وجرم وعقوق... للسياسة، أي للسلطة السياسية، سيكولوجيتها الخاصة بها، وهذه السيكولوجية هي التي دفعت بروتوس وزمرته التآمر ضد القيصر وقتله، وهي التي أوعزت إلى زمرة طامحة من حاشية السلطان سليمان التآمر عليه وعلى ابنه.