أتت الجولة الإفريقية لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، التي شملت الرأس الأخضر وساحل العاج ونيجيريا وأنغولا، وكأنهّا بمثابة تذكير أميركي للقارة السمراء بأنّها لا تزال مُدرجة على قائمة الاهتمامات، وذلك على رغم انشغال واشنطن بقضايا ساخنة، بينها الحربان في غزة وأوكرانيا، فضلاً عن أجواء التوتر مع الصين في المحيطين الهادئ والهندي.
وحرص بلينكن خلال الجولة على أن لا يدرجها في خضم التنافس الحاد مع الصين وروسيا على مراكز النفوذ في إفريقيا. وعندما سُئلت مساعدته للشؤون الإفريقية مولي فيي، عمّا إذا كان التصدّي للنفوذ الصيني أحد المواضيع الرئيسية التي سيناقشها الوزير بلينكن مع قادة الدول التي زارها، أجابت أنّ ذلك مجرّد تكهنات من قِبل وسائل الإعلام، و"حتى لو لم تكن الصين موجودة، فإننا سنكون منخرطين بالكامل مع إفريقيا".
هذا الجواب طبعاً لا يُقنع الكثيرين ممن يتابعون العلاقات الأميركية-الصينية، ويمكنهم أن يلاحظوا بسهولة كيف أنّ الاهتمام الأميركي مردّه بالدرجة الأولى، إلى توسّع المصالح الصينية في إفريقيا وإنفاق بكين عشرات مليارات الدولارات على الاستثمارات هناك، بينما المسؤولون الأميركيون دائمو التحذير للأفارقة من مغبة استغلالهم من قِبل الصين، وتحوّل استثماراتها إلى أعباء على الدول الفقيرة.
في هذا السياق، عقد بايدن قمّة أميركية- إفريقية عام 2022، مع وعد منه بزيارة بعض دول القارة القريبة من التفكير الأميركي، أو تلك التي تجري انتخابات وتقيم تداولاً للسلطة. لكن الزيارة لم تتمّ. وربما كان ذلك مبرراً بسبب انشغال البيت الأبيض بالحرب الأوكرانية ومن بعدها بالحرب الإسرائيلية على غزة واحتمال توسّعها إلى حريق إقليمي واسع، من شأنه إعادة توريط أميركا في نزاع آخر في الشرق الأوسط، وهذا ما يحاول بايدن تجنّبه.
ومن الأسباب التي ربما حدت ببلينكن لتخصيص وقت مستقطع للجولة الإفريقية، هو انحسار النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل وخروج القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وتمدّد النفوذ الروسي في المقابل.
وساعدت الانقلابات العسكرية في تغذية المشاعر المناهضة لفرنسا المستعمِرة السابقة وللغرب عموماً، بينما تمكنت موسكو من نسج علاقات جيدة مع النيجر وبوركينا فاسو ومالي، واستعادت علاقاتها التقليدية بدول اخرى مثل الجزائر ومصر، وكانت قمّة سان بطرسبرغ الروسية- الإفريقية الصيف الماضي، تتويجاً للدفء في العلاقات بين موسكو والدول الإفريقية. وكان للوعد الذي أطلقه الرئيس فلاديمير بوتين بتقديم شحنات قمح مجانية للدول الإفريقية المحتاجة أثره البالغ في جعل هذه الدول، ترى في روسيا خير معين لها في أزماتها الاقتصادية.
وتمكنت روسيا والصين من تقديم نفسيهما على أنّهما الدولتان اللتان تحملان عبء القضايا التي يعاني منها الجنوب العالمي، وفي مقدّمها الفقر والتردّي الاقتصادي. وظهر ذلك جلياً في عمليات التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشاريع قرارات تندّد بالهجوم الروسي على أوكرانيا. كانت الدول الإفريقية في معظمها تمتنع عن التصويت إلى جانب الولايات المتحدة وتلتزم الحياد.
أزعج الميل الإفريقي نحو روسيا والصين، الولايات المتحدة، خصوصاً مع الضربة التي تلقّتها فرنسا في دول الساحل. ومعلوم أنّ اميركا لا تزال تحتفظ بوجود عسكري في النيجر، لقيادة عمليات الاستكشاف وتوجيه ضربات إلى الجهاديين، لا سيما في الصومال.
جزء من الجهد الأميركي ينصبّ الآن على الوصول إلى مرحلة تستطيع معها الولايات المتحدة الحفاظ على مصالحها في إفريقيا، والحدّ من التوغلين الروسي والصيني.
ومهما حاول المسؤولون الأميركيون إدراج جولة بلينكن في سياقات أخرى، فإنّه من الصعب تصديق أنّ واشنطن إنما تعمل على تعزيز علاقاتها مع بعض الدول الإفريقية فقط من أجل خدمة هذه الدول مجاناً.
التعليقات