تتراجع أهمية الجذور العائلية والدينية، وتفقد قيمتها وأهميتها، لكنها لم تسقط في عصر من الاختلاط البشري في عصر الفضاء. ويظهر التراجع عند الترشح لملء المناصب والمواقع القيادية والعادية في بريطانيا وأمريكا وأوروبا وكندا وعواصم العالم بفعل الهجرة والنزوح.
أُفكّر في الأمريكيين الذين سيختارون رئيسهم في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني المُقبل، ومعظمهم من أصول الأرض المتنوعة وجذورها المتشعبة. هناك ترجيح بعودة دونالد ترامب ثانية إلى البيت الأبيض، وتلاحقه التهم في معركته، وأهمها اقتحام أنصاره مبنى الكابيتول منعاً للمصادقة على فوز جو بايدن، منذ أربع سنوات.
رحت أنقّب عن جذور دونالد ترامب في كتابه: «ترامب بلا قناع»، فوجدت قوائم من الثروات، واليخوت، والطائرات، وناطحات السحاب، واللوحات، والجواهر، مذيّلةً كلّها بالأفكار والخطب والمبارزات، والمرفقة لمن يتابع بالعودة المحتومة لحكم أمريكا، بتكرار التغريدات والتحدّيات والقرارات التي جعلت فلسطين في عهده مثلاً، صفقة مصاهرة لعريسين أو عديلين واحد من إسرائيل، وثانٍ من أصول لبنانية. لقد نقل ترامب سفارة أمريكا نحو القدس معتبرها عاصمة لإسرائيل. قد يوصلك التنقيب إلى جذور وأفخاخٍ «سادو مازوشية» غريبة مدموغة بالأفكار الثابتة المقدّسة والمكدّسة في الجذور تخفيها مظاهر السلطات لترسخ في الأذهان والسلوك، لكنها تستيقظ بحثاً عن مستقبل فلسطين والعرب والقدس وإسرائيل.
لماذا التنقيب في الجذور؟ لأنّ ترامب خرج من أحشاء إمرأة امتهنت تنظيف السمك في جزيرة منعزلة في اسكتلندا، ليصبح رئيساً لأمريكا شغل انتباهات الدول والناس. تُذكّرنا سيرة هذه الشخصية ب«ألف ليلة وليلة» إذ تكفينا الرياح السياسية والحروب تهبّ فينا ومن حولنا، ليقف الحبر بحثاً عمّن يدمّرون حجراً إثر حجر. فلنقرأ باختصار: عندما زار ترامب منزل والدته وأجداده (2008) بطائرته الخاصّة، وفيها غرفة نوم، وصالون يتّسع لجلوس دزينتين من أصدقائه الندامى، ومائدة من الخزف النفيس والكريستال، ومغسلتان مطليتان بالذهب، وعلى الطائرة كلمة TRUMP نافرة بالأحرف المضيئة، لم يتمكّن من المكوث وحيداً داخل منزل والدته المهجور أكثر من 97 ثانية. تمّ التقاط الصور التذكارية لدى خروجه، وقال للمتجمهرين أمام البيت:
«أشعر براحة تامّة هنا. عندما يعود أصل والدتك إلى مكانٍ معيّن، فلا بدّ أن تحبّ هذا المكان. اليوم أشعر بأنني اسكتلندي. لا تطلبوا منّي أن أحدّد شعوري تماماً. ثمّة شيء قوي داخلي اكتسبته من والدتي. وإذا كان هناك بينكم من لم يسمع الملاحظة، أقول لكم: لديّ ثروات طائلة».
لماذا التنقيب مجدّداً في الجذور؟ لأنّ الانقسام الشعبي حاد ومؤثر إلى حدود التخويف من انتخاب ترامب ثانية، مع أنّ غروفر كليفلاند، أصبح رئيساً لأمريكا مرتين في ال1885 و1893، ولا لأنّ ترامب يعود بشخصيتة البارزة كأنها لم، ولن تتحول، أو تتبدل، أو تتغير باللهجة والمواقف والهجومية، متجاوزاً السقوف ونازعاً الأغطية خلال حملاته حاصداً الناخبين، وملوّحاً لأوروبا المشغولة بوحدتها المهتزّة، ومتيقّناً بمزيد من الأعباء المالية التي أثقلها على البلدان الأخرى الثرية إثر ولايته السابقة. لم يخرج الرجل من قناعاته الفولاذية بصفته الأوفر حظاً بين المرشحين الجمهوريين منذ بدء الانتخابات التمهيدية، بل حلّق بهجومه على خصمه بايدن بعدما حقق فوزاً ساحقاً في ولاية «أيوا». لقد غذّت استطلاعات الرأي العام الصورة التي جعلت من جو بايدن، الشغل السلبي الشاغل لأمزجة الإعلاميين، وتعليقاتهم بشأن شيخوخته، وتعثره، وصورته مجدّداً قائداً عاماً للقوات المسلحة الأمريكية كأنّ لا وجود لمن ينافسه في صفوف حزبه.
تقوى الغرابة في البحث عن الجذور باحتقار دونالد ترامب لنيكي هايلي، رفيقته المرشحة عن الحزب الجمهوري، وقد كانت إلى جانبه في ولايته السابقة في البيت الأبيض، إذ لا ينفكّ متهكّماً على أصولها الهندية ولكنتها الإنجليزية، الأمر الذي سيحرمها قطعاً من أن تُصبح نائبته في حال نجاحه في الولاية الثانية لرئاسة أمريكا، لا سيّما وأنها قد تنافسه جدّياً، ولو أنّ حزبهما الجمهوري يتوحّد بكثافة لمصلحة ترامب.
التعليقات