حين نتحدث عن الفكر الفلسفي في المغرب، لا يمكن تناسي محمد سبيلا بوصفه أبرز الذين انكبّوا على دراسة مفاهيم وقضايا كالحداثة والتحدث والنَّزعات الأصولية وحقوق الإنسان والديموقراطية والتقنية وغيرها من المفاهيم الفكرية. يذكر الكاتب والمترجم المغربي سعيد غيدي، تزامن محمد سبيلا (1942-2021)، الذي كان قيد حياته أستاذًا جامعيًا بجامعة محمد الخامس بالرباط، يُدرس الفلسفة، مع مد كبير للفكر الأصولي السلفي، غير أنه ومن معه من جيله من المفكرين، أمثال عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري، وغيرهم من المدافعين الشرسين عن المشروع الحداثي للدولة، كانوا يُشرّحون الحداثة من منظور سياسي وحقوقي وفكري وايديولوجي، وكان سبيلا دومًا يستشهد بالعروي، وكأنه يشد عضده به، في مواجهة الفكر المنغلق، ومن ضمن ما أورده محمد سبيلا، نقلاً عن عبدالله العروي قوله: «تنطلق الحداثة من الطبيعة، معتمدة على العقل، لصالح الفرد لتصل إلى السعادة عن طريق الحرية». هكذا يقف سبيلا مستميتًا أمام آلة المد الأصولي والإسلام السياسي عامة، الذي قال عنه: «انتشار فكره يسير بوتيرة أبطأ من انتشاره تقنيًا»، موجزًا كل هذه المعارك في اسناد الحداثة إلى الطبيعة، وكونها البديل الذي لا محيد عنه، من أجل مجتمعات مستقيمة، وفكر جمعي سليم، خالٍ من الأعطاب.
في حوار أجرته معه مجلة الفيصل، أشار سبيلا إلى، أن من الأشياء التي استثمرت في دينامية مقاومة أشكال التحديث والتطوير هو إعطاء تصور سلبي للعلمانية، مثل: العلمانية ضد الدين، العلمانية إلحاد، العلمانية كفر، العلمانية حرام، وقد قيل وكتب الكثير حول العلمانية في هذا الإطار، وهذا له ارتباط بالمقاومة وتشويه المفاهيم لجعلها غير مستساغة لدى الجمهور، في حين أن العلمانية نوعان كما تبين من خلال الدراسات، فهناك العلمانية الراديكالية التي ظهرت بعد الثورة الفرنسية في مرحلة معينة، التي تقول: إن الدين تأخر وإن الدين ينتمي إلى مراحل تجاوزها التطور، وهي مرحلة غيبية ميتافيزيقية، ويجب إبعاده عن السلطة ويجب حماية المجتمع من هذا التصور، فهذا هو الحد الأقصى للعلمانية الراديكالية، ولكن هناك العلمانية العادية التي تقول: إنه يتعيّن الفصل بين الدين والسلطة، وليس إبعاد الدين كثقافةٍ من ثقافات المجتمع، ولكن هي فقط تتحدث عن الجانب السياسي، بحيث إن استعمال الدين في الصراع السياسي هو مسألة فيها الكثير من الإجحاف، فيتعين أن يتطوّر المجتمع تلقائيًا عبر صراعات اقتصادية وأيديولوجية في غياب استقلال الدين في السياسة. الخلاصة في قضية العلمانية أن مضمونها في التجربة الأوروبية سواء الثورية أو العادية، تبين أن تطوير المجتمع تطويرًا إيجابيًا يتطلب الفصل بين الدين والسياسة بمعنى تدبير الشؤون العامة وشؤون الحكم وأن السلطة يجب أن تكون محايدة. فهذه هي الخلاصة التاريخية للشعوب بخصوص التجربة الأوروبية الكونية.
ومن الأولويات التي ناقشها، مسألة العرب والتقدم ودينامية الصراع، التي قال عنها إن تاريخ العرب الحديث هو تاريخ تحكمه دينامية قوية هي دينامية التحديث أو على الوجه الأصح دينامية الصراع بين التقليد والتحديث، وذلك منذ أن هبّت رياح التحديث على المنطقة العربية منذ أواسط القرن التاسع عشر، وعلى وجه التحديد منذ غزو نابليون لمصر. وفي مقابل ذلك، يرى أن القانون الأساسي الذي يحكم تاريخ العرب الحديث هو بندول النهوض والسقوط، والمراوحة بين هذين الحدين: إرادة النهوض وعوامل السقوط.
ويعني بهذه المسألة، تعود إرادة النهوض عند العرب إلى إرث تاريخي قوي يتمثل في أن العرب صنعوا فترة من التاريخ العالمي، وبلغوا ذروة التاريخ بين القرنين التاسع والثالث عشر عبر علومهم وآدابهم وتمددهم الجغرافي لكن التاريخ مد وجزر. وظلّ هذا الحلم التاريخي يراود حسهم ووعيهم رغم كل الانكسارات والخيبات. يتمثل الامتحان التاريخي العسير الذي تعرض له العرب في العصر الحديث في سيرورة الحداثة التي انطلقت من أوروبا وانتشرت عالميًا خلسة وقوة، وأصبحت تمثل شرطًا أساسيًا للوجود في العالم وللانتماء إلى العصر. ورغم ما للعوامل الخارجية المتمثلة في الاستعمار وإرادة الهيمنة الغربية، فإن المآلات السلبية يمكن أن تفسر بدينامية وأهمية الكوابح الداخلية التي يتحايل الوعي العربي على نفيها أو تذويبها وإنكارها؛ لأن الوعي التاريخي وعي ماكر من حيث إنه يمارس ويؤسس للتضليل الذاتي بإسقاط ما هو داخلي على ما هو خارجي، أو ما هو رُوحي على ما هو عقلي، وما هو ذاتي على ما هو موضوعي أو تاريخي في مراوحة حادة بين الاستهداء والتيه.أكتشف العرب العصر الحديث تدريجيًا عبر مسلسل اكتشافات كانت كلها صادمة خادشة وجارحة للشعور بالذات أو ما سمي بالنرجسية وبالجروح النرجسية المؤلمة.
في كتابه الأخير «الشرط الحداثي»، أرّخ محمد سبيلا لمسار الحداثة العربية، الذي ابتدأ من صدمة الاستعمار والشعور الغريب، الذي أثارته هذه الصدمة في وجدان الشعوب العربية، وهي تشعر للمرة الأولى بنمط عيش جديد، يكتسح حياتها اليومية ويجعلها تتخلى عن تقليدية مجتمعها. كتب سبيلا، مقالاً تحت عنوان «التحولات الفكرية الكبرى للحداثة. مساراتها الابستيمولوجية ودلالاتها الفلسفية»، يقول في أحد محاوره «عصر الحداثة هو العصر الذي يختل فيه التوازن بين الماضي والمستقبل، فهو العصر الذي يحيا بدلالة المستقبل، وينفتح على الجديد الآتي، وبالتالي لم يعّد يستمد قيمته ومعياريته من عصور ماضيه، بل يستمد معياريته من ذاته، وذلك عبر تحقيق قطعية جذرية مع التراث والتقليد». وأضاف، «إذا كان الزمن التقليدي متمحورًا على الماضي، فإنه حتى عندما يشرئب إلى المستقبل، فهو ينظر إليه باعتباره استعادة إسقاطية للماضي في المستقبل، إذ إن الزمن في المنظور التقليدي يتميز بالحضور الكثيف للماضي، وبقدرته على تكييف كل الآنات الأخرى. أما زمن الحداثة؛ فيتسم بالفاصل المتزايد بين فضاء التجربة وأفق الانتظار، وهو الفاصل الذي لا يعني يتزايد باستمرار لدرجة تجعل البُعد اليوتوبي مطالبًا للمفهوم الحدثي للزمن. لكن الانتظارات والآمال التي يحملها زمن الحداثة، تحمل بشائر المستقبل المنتظر حدوثه داخل خط الزمان نفسه، عبر نقلات كمية أو نوعية لا تقع خارج أفقه، وبذلك يمارس الوعي التاريخي الحداثي استدراجًا مستمرًا للانتظارات الكبرى البعيدة المدى، إما عبر التقنية أو من خلال الأيديولوجيات المحملة بالمثالية».
يقول الشاعر والكاتب المغربي عبدالرحيم الخصار: كان سبيلا يرى أن الحداثة رهان على الانتقال من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنية، أي الخروج من الانطباعية والذاتية والقيمية إلى اعمال العقل واعتماد مناهج ترتكز على الملاحظة والتجريب. كما كان يرى أن الحداثة ركزّت في البداية على الإنسان محورًا لكل التحولات، وأعادت الاعتبار إلى المسألة الإنسانوية، غير أنها خضعت لاحقًا لنقد داخلي كشف أن الإنسان ليس الفاعل الوحيد، وليس كائنًا مثاليًا بالضرورة، بل هو «ذات مشروخة ومشروطة، غير عارفة بذاتها، وخاضعة لحتمية البنيات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية واللسانية والرمزية التي تحددها معا، ذات يداهمها اللاعقل والوهم والمتخيل من كل جانب». إن الحداثة في نظر سبيلا بنية فكرية كلية، حين ترتطم ببنية سوسيولوجية تقليدية تعرّيها وترفع عنها قدسيتها. فكل منظومة فكرية قابلة للنقد والمساءلة، ووظيفية العقل الحديث تفكيك البُنى بعيدًا عن كل نظرة وثوقية. كان ينتقد الفكر التقليدي وهو ينظر إلى المستقبل، إنما ينظر إليه باعتباره عودة للماضي أو تشكلاً جديدًا له، لا اعتباره زمنًا آخر ينطلق من الحاضر ويقطع مع الماضي نفسه. تبدو كتابات محمد سبيلا قريبة من القراء، فهي تتبنّى نظريات تبسيط المعارف. لذلك نجد لغته بعيدة عن التقعر والارتكان المفاهيمي والجنوح بالقارئ إلى متاهات مفهومية وفلسفية. كان يستند إلى مرجعية قرائية هائلة يعمل على إذابة مُداخلاتها في صهارة جديدة وإعادة تقديمها للقارئ بصيغ أبسط وأوضح.
التعليقات