أسعدنِي كثيرًا خبرُ التحوُّل الرقميِّ (الكامل) لثلاثٍ من مطبوعات المجموعة السعوديَّة للأبحاث والإعلام، وهي: «الاقتصاديَّة»، و«الرياضيَّة»، و«ماليالام نيوز»، وهي خطوةٌ لا يمكن وصفها بالمفاجئةِ، حيثُ إنَّ تاريخ المجموعة يشهدُ لها دومًا بالأسبقيَّة، وتقدُّمها بخطواتٍ في المجال الرقميِّ، وتوظيف التكنولوجيا لخدمة منتجاتها الإعلاميَّة. وهي بالمناسبة أسبقيَّة لم تبدأ فقط مع عصر الإنترنت، بل سبقتها بسنواتٍ عندما كانت صفحاتُ جريدةِ الشَّرق الأوسط -في الثمانينيَّات والتسعينيَّات- يتمُّ إرسالها بالأقمار الصناعيَّة في نفس يوم صدورها، للعديدِ من مراكز الطباعة حول العالم.
وبالرغم من كلِّ ذلك، فأنا أرَى أنَّ قرارَ المجموعةِ الحالي (بحُكم حجمها ومكانتها)، يُعتبر على المستوى المحليِّ بدايةً لمرحلة التَّغيير المُنْتَظَرَة، ونقطة تحوُّل مفصليَّة تُسجَّل في تاريخ الصَّحافة السعوديَّة، باعتبارها الأُولى التي يتمُّ فيها إيقافُ (الورقِ) بشكلٍ تامٍّ لثلاث صحفٍ دفعة واحدة، دونَ إغفالٍ لتجربة صحيفة البلادِ بهذا الشَّأن.
وبالتَّأكيد سيتساءل البعضُ قائلين: وما الضَّررُ من الإبقاءِ على النُّسخة الورقيَّة بجانب الرقميَّة؟.
والإجابةُ هي أنَّ الإصرارَ لأكثرِ من عقدين على الإبقاء على (الورقِ) كان -ولا يزال- قرارًا خاطئًا وخاسرًا لمؤسَّساتنا الصحفيَّة، ومواردها الماليَّة والبشريَّة، وامتدَّ ضرره لإعلامنا السعوديِّ بإضعافِهِ لركنٍ هامٍّ من أركانِهِ، وإفقاده الكثير من مواردِهِ وكفاءاتِهِ الصحفيَّة. لقد كانتْ كلُّ الدَّلائل تؤكِّد بوضوحٍ طوالَ تلك الفترة، على أنَّ (الورقَ والحبرَ) ليس له أيُّ مستقبلٍ في ظلِّ التطوُّرات الرقميَّة، وتغيُّر ميول ورغباتِ القرَّاء، وتدهور أرقامِ التَّوزيع والإعلانات، وارتفاع تكلفة الطِّباعة، لدرجة يصعبُ معها تصديقُ أنَّ مطبعةً يبلغ سعرها قرابة 200 مليون ريال، يتمُّ تشغيلُها يوميًّا لطباعة عددٍ محدودٍ جدًّا من النُّسخ، لو تمَّ بيعُهُ بكاملِهِ، فإنَّ مردودَه الماديَّ لن يتعدَّى 15.000 ريال. وأذكر أنَّني عندما أثرتُ هذا الأمرَ قبل سنواتٍ، قِيل لي بالحرف الواحد: «سوف نستمرُّ في إصدارِ الصَّحيفة الورقيَّة حتَّى لو اشتغلت المطابع لإنتاجِ نسخةٍ واحدةٍ فقط».
وهنا سيقولُ البعضُ إنَّ العديدَ من الصُّحف العالميَّة لا زالت تجمعُ بين النُّسخ الورقيَّة والرقميَّة، ومنها صحيفة «نيويورك تايمز». والواقع أنَّ هذه الصَّحيفة هي واحدة من الصُّحف التي أدركت الخطرَ منذُ أيَّامه الأولى في التسعينيَّات، وخطَّطت بشكلٍ حكيمٍ لعمليَّةِ التحوُّل نحو المستقبل، بدلًا من إهدار الوقت والجهد والمال على التعلُّق بالماضي، والتشبُّث به. وقد أعلنت الصَّحيفة -على لسانِ رئيسِها التنفيذيِّ- بأنَّ خططها تتركَّز في التخلُّص تدريجيًّا من الورقِ، والاعتماد على المنتجات الرقميَّة.. فبمجرَّد أنْ يصبحَ (الورقُ) عبئًا وخسارةً، سيتمُّ إيقافُهُ تمامًا.
الخطوة التالية -في رأيي- هي إيقاف النزيف الحاصل في مؤسساتنا الصحفية الباقية دون استثناء، وذلك بالإيقاف التام للنسخ الورقية، وتحويل مواردها المالية والبشرية، وتفريغها كلياً للعمل الرقمي المحترف.
أنا أدركُ جيدًا أنَّ رأيي هذَا سوفَ يُغْضِب البعضَ، وهو أمرٌ أقلُّ ما يُقال عنه إنَّه أشبهُ بوضعِ اليدِ في عشِّ الدَّبابير.. وكلِّي أملٌ بأنْ يكون التحوُّل الرقميُّ الحاصلُ بدايةَ صفحةٍ جديدةٍ، يتمُّ خلالها وضعُ مصلحة إعلامنا أوَّلًا، بعيدًاً عن العواطفِ والمصالحِ الضَّيقةِ.
التعليقات