الصحافة صنيعة كتّاب وأدباء ومثقفين كبار في اللغة العربية، وكبار في ثقافة وبلاغة وجماليات هذه اللغة الأم، وأم اللغات من جورجي زيدان إلى اليوم، ولم تكن الصحافة صاحبة جلالة إلا لأنها استحقت هذه الصفة الاعتبارية الجميلة من خلال اللغة العربية، والصحافة مهنة متاعب كما يقولون، لأن من يحترم قلمه لا بد وأن يتعب، وهي كائن حيّ جميل بين المعاجم والقواميس وأمّهات الكتب، والصحافة أيضاً سلطة رابعة لأنها تستمد هذا الامتياز من سلطة اللغة ذاتها.. السلطة الجمالية والفكرية والبلاغية، وليس سلطة النص الإيديولوجية أو العنصرية.
ما من صحفي عربي كبير في اسمه ورمزيته ومعناه المهني إلا وفي داخله، في قلبه تحديداً، حجرة عاطفية تقيم فيها اللغة العربية، وإلا اضطرب توازنه، وهو التوازن المهني هنا، إن لم يكن التوازن النفسي.
قامت الصحافة العربية على أقلام أدبية في الأساس، ثم تحوّلت إلى مهنة وإلى أفق رحب يتسع لصباحات البشر وعاداتهم ويومياتهم، وستكون اللغة العربية هي الواصل الوجداني بل حتى الروحي والنفسي بين الصحفي وقارئه الممتلئ باللغة. بالطبع، ليس بالضرورة أن يكون الصحفي سيبويه أو الجاحظ، بل المطلوب حد -وليس حداً أدنى- من طاقة العربية الفصحى في داخله، وإلا فسترى أن مادّته الصحفية متخبّطة، وأقل ما يقال فيها: إنها ركيكة.
لم يعرف الصحفيون العرب المولودون في حجرة اللغة العربية الركاكة مطلقاً، بل هي عيب ونقص، ويظل الصحفي الركيك بسبب العربية الفصحى متوارياً دائماً.. ودائماً يجلس في الصف الثالث حتى لو جرى تلميعه و«مكيجته» التشكيلية بطاسة من الألوان.
اللغة العربية أساس الصحافة، كما أن العربية هي الأساس الثقافي والتاريخي للشعر، الذي أصبح ديوان العرب، ولم يكن الشعر ديواناً للعرب إلا لأن اللغة العربية هي المكان الطبيعي الأول لهذا الديوان.
دخل إلى مهنة الصحافة من ليس لهم أي علاقة ثقافية، أو عاطفية، أو انتمائية باللغة العربية على أساس أن الصحافة هي مهنة إعلامية تتصل بالخبر والحدث، وتغطيته، والتعليق عليه في أطر (لغوية) مختلفة عن لغة الأدب أو لغة الثقافة الأدبية عموماً، غير أن هذا الفهم للغة الصحافة هو خطأ مطلق وفادح يؤذي المهنة، ويقلّل من هيبتها أو جلالها وسلطتها التي هي سلطة اعتبارية رمزية وليست استبدادية.
«استبد» بالصحافة مُتنفذون جاؤوا إلى المهنة مسطّحين تماماً في ما يتعلق باللغة العربية، وحتى الثقافة العربية ككل.. هؤلاء «بعض» وليسوا «كلاً» له كيان وشخصية، وبالتالي فهم على حدّ قول محمود درويش: عابرون في هواء عابر. يتبع..
التعليقات