علمونا في فصول الدراسة أنه لا يستحسن صنع قرار أو اتخاذه في أوقات الأزمات، إنما يمكن استغلال هذه الأوقات في الاستعداد للخروج من وضع الأزمة وصنع بدائل فكرية لما بعد الأزمة وجس نبض مختلف الأطراف حول هذه البدائل جملة واحدة أو بديلاً بعد الآخر.

نحن، وأقصد مختلف أطراف القضية الفلسطينية، وبعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة، نمر الآن في وقت أزمة. لسنا كلنا شركاء في الأزمة بنفس القدر. بعضنا عاش في قلب القضية أو الموضوع، إن صح التعبير، والبعض الآخر اقترب من هذا القلب وابتعد عنه خلال مسيرة عاشت معنا لأكثر من خمسة وسبعين عاماً. بعض ثالث شارك بالتعاطف في أحيان، وبالابتعاد في معظمها، وهو محسوب عليها، فاستحق صفة «الدول الأرجوحة». من البعض الأول فلسطين وإسرائيل بطبيعة الحال، ودول سماها العرب في إحدى مراحل القضية بدول الطوق، وهي الدول التي اشتبكت في حروب ومقاطعة ثم تطبيع سمي في حينه أو بعد حين سلاماً بارداً، وفي الغالب، بقيت تفاصيل هذا السلام ونواياه محاطة بقدر كبير من السرية والشكوك والشائعات. ضمن هذا البعض الأول، وجدت دائماً ومنذ اليوم الأول، الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى. وفي مراحل تالية وبخاصة خلال الأزمة الراهنة انضمت ألمانيا بشكل ومحتوى أثار من القلق والغضب أكثر مما أثار من اهتمام واندهاش. وفي مرحلة متأخرة انضمت إيران إلى هذا البعض الأول، فاتسع الطوق، مجبراً فيما يبدو، ليحتويها وقد تعددت شقوقه وتكسرت حوافه بفعل فاعل أو أكثر.

تابعت بمزيد من القلق والاهتمام خلال الأزمة، الجهود الخارجية نحو العثور على صيغة جديدة للوضع في مرحلة ما بعد غزة. كلاهما، وأقصد القلق والاهتمام، نابعان من شبهة تواطؤ أو تآمر، طرفاه حكومة الرئيس جو بايدن وحكومة بنيامين نتنياهو. الحكومتان، بدعم من حكومتي بريطانيا وألمانيا وحكومات غربية أخرى، قررتا استخدام، أو الموافقة على استخدام، صيغة الإبادة الجماعية على أمل أن تفرغ غزة كلية أو معظمها من السكان الفلسطينيين، ثم يأتي الدور على الضفة الغربية لتفريغها هي الأخرى من خلال الصدامات الجارية، والتي يمكن أن تزداد، بين المستوطنين اليهود القادمين من الولايات المتحدة وبعض منهم، حسب الروايات الصحفية، هاربون من أحكام أو مشتبه بقيامهم بأنشطة إجرامية.

تسربت أخبار تفيد بأن الأمريكيين توصلوا متأثرين بموقف الرأي العام الغربي ثم العالمي إلى قناعة بأن نتنياهو وحكومته حققا فشلاً ذريعاً في خطة تفريغ غزة تمهيداً لتهويدها. المؤكد الآن أن جهاز صنع السياسة الخارجية في واشنطن كان متواطئاً منذ اللحظة التي نصح فيها أو أمر بتحريك قطع من الأسطول الأمريكي إلى شرق البحر المتوسط لحماية عدوان إسرائيل. وصلت قطع الأسطول تحت الادعاء بأنها ستكون موجودة لمنع توسيع الحرب، وبكلمات أخرى منع الدول العربية وأي دول أخرى في الشرق الأوسط من التدخل للوقوف بجانب المقاومة الفلسطينية أو لحماية سكان غزة.

لم يُخْفِ بلينكن حقيقة ما كانت أمريكا تأمل في تحقيقه من خلال هذه الحرب، عندما أدلى بتصريحاته في دافوس. وقتها تحدث عن ضرورة إصلاح منظمة التحرير وإصلاح أخطاء التطبيع وتشجيع المرشحين الجدد له، كان مفهوماً أيضاً أن المقاومة الفلسطينية للعدوان، إلى جانب الأثر الهائل عالمياً في حجمه لبشاعة عمليات الإبادة البشرية، فضلاً عن تراجع بعض الدول الأعضاء في الحلف الغربي عن موقفها الداعم لإسرائيل، كلها عناصر ساهمت في اكتمال عودة واشنطن للتدخل السياسي المكثف في المنطقة.

هذه العودة ذات مضمون مهم ومعنى كبير. خرجت أمريكا من الشرق الأوسط عندما شعرت أن الحاجة إليها في الشرق الأقصى تفوق حاجة الشرق الأوسط. عادت عندما شعرت أن الشرق الأوسط عاد إلى طبيعته المشاكسة، وعاد إلى رفض وضعه وشكله وميوعة دوره.

مرة أخرى تعود أمريكا لتهيمن في الشرق الأوسط وفي نيتها أن تصلح ما فلت عياره وتنقذ إسرائيل من «عالم جنوبي» يتربص بها. بدأت بالكشف عن «العين الحمرا» كما توصف الشدة في تربية الأطفال. لن نوقف القتل والقتال. وإمعاناً في التشدد كشف بلينكن عن يهوديته، وشكّل جهاز مبعوثين للشرق الأوسط أغلبيته العظمى من اليهود، وكأن الخارجية الأمريكية ومراكز البحث خلت جميعها من غير اليهود.

وبكل تحدي وعناد جاء الرئيس جو بايدن بنفسه ليحضر انعقاد مجلس الحرب في إسرائيل، وكأنه يقول «الحرب حربنا» ولن نترك إسرائيل إلا وهي منتصرة على جحافل (العماليق) الجدد، الاسم الذي استعاره نتنياهو من الكتاب المقدس ليطلقه على الفلسطينيين وخصوم إسرائيل.

في مرحلة أخرى ظهرت تلميحات بأن يدير أمور غزة بعد الوقف المؤقت للقتل والتدمير كل من مصر والأردن والسعودية والسلطة الفلسطينية تحت عنوان دولة فلسطين المستقلة. العنوان شديد الإغراء، ولكن الحقيقة شديدة الكذب والنفاق، تماماً كعادة دول الاستعمار الغربي. فالدولة لن تكون إلا منزوعة السلاح وناقصة السيادة و«ضامنة لأمن دولة إسرائيل». يعني لا دولة. أضيف إلى ما سبق قناعتي بأن مصر، لأسباب عديدة، لن تقبل أن تعود إلى قطاع غزة حاكمة أو ضمن جهاز حاكم. لقد جربت وعانت ولن تجرب مرة أخرى عرضاً مغلَّفاً بالحرير وفي باطنه شر أثيم.

كهذا وبكل تعال وجسارة أطل النفاق والغرور والشر الأكيد من ثنايا مشروع سلام جديد في شرق أوسط جديد.