يتناقل العديد من الباحثين في الجغرافيا السياسيّة والعلاقات الدوليّة في هذه المرحلة عن مسارات جديدة سوف يتشكّل من بعدها نظام عالمي جديد، على خلفيّة النزاعات الكبيرة التي يشهدها العالم في هذه الحقبة ولعل أكبرها وأبرزها قضيّة فلسطين والحرب في أوكرانيا.

وإذا كانت هذه المرحلة الانتقاليّة بين ضمور النظام القديم وقبل «بزوغ» فجر النظام الجديد، تشهد الكثير من التحديات؛ إلا أنّ هذا لا يعني بالضرورة حتميّة القبول بهذه الفرضيّة التي قد لا تصح على الواقع الدولي المستجد عقب هاتين الحربين القاسيتين في فلسطين وأوكرانيا.

لقد كشف التعامل الدولي مع هذين الصراعين زيف الكثير (إن لم يكن كلّ) الشعارات التي لطالما تغنّى بها الغرب لناحية الديمقراطيّة والحريّات وحقوق الإنسان، فشهد العالم برمته كيف أنه تغاضى عمّا شهدته غزة من جرائم إبادة جماعيّة موصوفة ووفر الغطاء السياسي والعسكري للاحتلال الإسرائيلي لمواصلة حربه دون هوادة على الشعب الفلسطيني الأعزل.

لقد مدّت واشنطن حليفتها المدللة إسرائيل بجسر جوي من المساعدات العسكريّة التي لم تنقطع أساساً منذ سنوات وقبل إطلاق الحرب، وباستثناء أصوات قليلة في الكونغرس مثل النائب التقدمي بيرني ساندرز المعترض على استخدام السلاح الأميركي لقتل المزيد من المدنيين الفلسطينيين، تسير الأمور بشكل شبه عادي من دون اكتراث أميركي حقيقي لمجالات استخدام ذلك السلاح.

طبعاً، لا يمكن إغفال أيضاً المعايير المزدوجة في ما يتعلق بمفهوم الاحتلال وكيفيّة التعامل معه بين روسيا وإسرائيل، فعندما أطلقت موسكو حربها على أوكرانيا، انتفض الغرب لتقديم الدعم لكييف لوقف الزحف الروسي، رفضاً للاحتلال وقضم الأراضي؛ إلا أنّ الغرب نفسه تغاضى ويتغاضى عن إحتلال أراضي فلسطين منذ العام 1948، وإقامة دولة للبعض على أرض الآخرين.

كما دلّت الأحداث أيضاً أنّ الأقانيم التي تبني الدول الغربيّة عليها دعايتها السياسيّة والإعلامية مثل حريّة التظاهر الشعبي والتعبير عن الرأي قد تعرّضت كذلك للعديد من الانتكاسات الهامة. يكفي ما حصل مع رؤساء بعض أعرق الجامعات الأميركيّة الكبرى الذين تعرّضوا للتضييق الشديد (كي لا يوصف بشكل من أشكال الاضطهاد السياسي والتعنيف اللفظي) في جلسات الاستماع التي عقدها الكونغرس، وهي أفضت في نهاية المطاف إلى إقالة أو استقالة بعض رؤساء تلك الجامعات.

لقد بيّنت الفترة التي سبقت تقديم جنوب أفريقيا الدعوى القانونيّة لمقاضاة إسرائيل أنّ الترهل في القانون الدولي وتطبيقه المجتزأ والضعيف قد وصل إلى مراحل متقدمة وأنّ العالم الذي نعيش فيه، حتى ولو سلمنا جدلاً بأنّه قد يشهد تشكيلات جديدة في موازين القوى طبقاً إلى نتائج الحروب الراهنة ومآلاتها المستقبليّة؛ فإنّ الصراع الدولي قد اتخذ منحنيات جديدة وبعضها يتسم بالخطورة البالغة.

ثمّة مسارات طويلة لا تزال غير واضحة تماماً إزاء مقاضاة إسرائيل، والتي قد لا تصل إلى خواتيمها المرجوة في المدى المنظور نتيجة التعجرف الإسرائيلي والدعم الأميركي غير المحدود وغياب الاستعداد لدى ما يُسمّى «المجتمع الدولي» (ويا لها من تسمية مطاطة تُستحضر غب الطلب بحسب الملف الذي تتم مقاربته).

لم تكن إسرائيل يوماً «تحت» القانون الدولي، واستمرار الدعم الأميركي غير المشروط يفاقم هذا المناخ الذي لا يمكن من خلاله الحديث عن «تطبيق جدي» للقانون الدولي، ولو أن البعض يرى سابقة في الموقف الصادر عن محكمة العدل الدوليّة، وهذا صحيح.

لن «ينتظم» الوضع في الشرق الأوسط ما لم ينل الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة التي لم يعد متاحاً أمام القوى الغربيّة الكبرى أن تتجاوزها، وذلك لا يتحقق حتماً من خلال التأييد اللفظي لقيام الدولة الفلسطينيّة وفي الوقت ذاته منح إسرائيل إجازة متواصلة في الإبادة الجماعيّة!