متلازمة الديمقراطية وانتقادها هي سمة لا تكاد تنفك كلما ذُكرت. فخصوم الديمقراطية هم ذاتهم أكثر المتعلقين بها حتى وأن تطرفوا ناحية سلوكهم الديكتاتوري، وإن اشتمل التاريخ السياسي المعاصر الكثير من النماذج الحاضرة في الذهنية إلا أن الديمقراطية ذاتها تعيش حالة من المراجعة الذاتية حتى وهي تتماسك عند نظريتها المؤسسة لها.

وهذه المراجعة الحادة في النقد قد تصل إلى حد الاتهام، وإذ هي تقلصت درجتها فهي تتنمر، فمنذ مطالع القرن الحادي والعشرين ثمة نمطية متغيرة في مراجعة الديمقراطية، بعد ما أصابت مجتمعات بخيبات جسيمة كلفتها أثماناً باهظة للغاية.لا جدال أن الديمقراطية تعد المنتج البشري الأعظم لتنظيم المجتمعات، غير أن هناك إشكالية تنامت بقوة بعد الحرب الباردة الأولى، وسيادة الولايات المتحدة على العالم. الغرب يرى أن الرأسمالية هزمت النظم الاشتراكية ويجب أن تسود الشعوب، التي عليها أن تحصل على حصتها الكاملة من الديمقراطية، وأن كانت شعوباً تعيش ببطون خاوية وفي واقعها مازالت قابعة في أزمنة متأخرة، حتى وأن هي حظيت باستقلالها السياسي ودخلت في النظام الدولي.

اعتبرت الولايات المتحدة نفسها وصياً على الديمقراطية باعتبارها حققت النصر، حيث وقف رئيسها دونالد ريغان ينظر بانتشاء لتحطم جدار برلين شاهداً على نهاية الاتحاد السوفييتي ومدشناً لعهد السطوة الأميركية على العالم، تلك لحظة تاريخية كرست في الوجدان البشري أن الأنظمة غير الديمقراطية انتهت، إلا أن طبقة الأنجلوسكسونيين اعتقدت أنها بداية الاستفراد، ولذلك كان فوكوياما قادراً أن يضع كتابه الأشهر «نهاية التاريخ» باعتبار أن الليبرالية وحدها التي ستمضي بالعالم دون شريك لها.

ظلّت الولايات المتحدة تحكم على إيجابيات وسلبيات الديمقراطية في جميع البلدان بناءً على منطق الهيمنة، ووفقاً لرغباتها، صنفت واشنطن كل الأنظمة الرافضة للخضوع لمنهجها بأنها «محور الشر»، وحاولت إحداث الصراعات والمواجهات في العالم من أجل استخدامها للحفاظ على الهيمنة، ولم توقظ أحداث «سجن بوغريب» في العراق ولا حتى من قبلها غزو أفغانستان شيئاً من كل القيم النبيلة من الحرية والعدالة والمساواة في أذهان قادة العالم الحرّ، ولكنها أصابت شعوباً بالخيبة والحسرة وزادت عندهم من ردة الفعل المعاكسة.

لطالما حدد دعاة الديمقراطية الخيارات إما القبول بها أو الاستسلام للنظم غير الديمقراطية من وجهة النظر الغربية، ضمن مقاربة واحدة بعين واحدة، حتى مع الانبهار بنموذج الصين الأخاذ الذي انتشل بلداً مكتظاً بالسكان وواقعاً في الفقر ليذهب به ليكون نداً لأقوى اقتصاد في العالم، أزاح الاتحاد الأوروبي ككتلة اقتصادية مشتركة من المشهد والوقوف بمحاذاة الولايات المتحدة لا يبدو عابراً، وهو ما يعيد عند الشعوب النظر إلى أن هناك بديلاً عن الديمقراطية ذات التعددية، سياسات الحزب الشيوعي الصيني نجحت وأن كانت بقبضة قوية أحكمت على الحريات الشخصية غير أنها وفرت المساحة للتفكير في أن هنالك البديل.

قيمة الديمقراطية يجب أن تحددها النتيجة وليس «الفعل». الجميع يفعّل الديمقراطية حينما يتحدث عن نفسه، ولكن «الاستبداد» يظهر عند صدور «رأي آخر» من شخص أو مجموعات غير مقبولة بحسب ما بلغته المجتمعات من استيعاب لمفهوم العملية الحاكمة والمنظمة للسياسات، هنا لا يمكن الفصل بين التعاقب على التداول بالديمقراطية مع تلكم التوجهات التي تحاول إخضاعها القوى النافذة في العالم على كل شعوب الأرض.

الديمقراطيات لا يمكن أن تستمر كما هي الآن، يجب أن تعيد الأنظمة السياسية العامل البشري إلى الحكم الديمقراطي وأن تضع الناس واحتياجاتهم في المقام الأول، إذا لم يفعلوا ذلك، فسيكونون قد خذلوا مواطنيهم، فالأساس الذي قامت عليه الديمقراطية هو خدمة مصالح الشعب. إذا استمر الحال كما هو عليه، فستزداد الشعبوية والاستياء وسيتأثر الناس بسهولة بالعاطفة جراء تبعات الهزات الارتدادية العنيفة التي أصابت الديمقراطية بعد أن بلغت حالة الاستقطابات أعلى ما يمكن من شدّة وقوة أظهرت معها حاجة لإعادة تفكير عميق في الحاجة إلى أنه لم يعد من الصحيح استخدام الديمقراطية كسياط على ظهر الشعوب فها هي الديمقراطية ذاتها تتنمر على ذاتها.