كثيراً ما يدور نقاش حول علاقة السياسي بالثقافي، وترتفع أصوات كثيرة مطالبة بمنح الثقافة فضاءها الخاص بها المستقل عن السياسة، وتردّ كثير من الأطروحات ما أحاق بالمشهد الثقافي العربي من مظاهر سلبية إلى ارتهان الثقافة الطويل للسياسة، ويجري لفت النظر إلى حقيقة أن المبدع حين تكون عيناه على السياسة، لا من حيث هي انحياز إلى قيم وقناعات، وإنما من حيث هي عمل يومي مباشر فإن جزءاً كبيراً من طاقته الإبداعية يُعطّل.
وتكثر الشكوى أيضاً من أن السياسيين نظروا إلى الثقافة دائماً نظرة دونية، بوصفها ملحقاً أو تابعاً للسياسة، وعلى هذه القاعدة جرت النظرة إلى المثقف بوصفه «موظفاً سياسياً». والحال أنه ما من دورية ثقافية عربية أو صفحة ثقافية في جريدة عربية تخلو من دراسات ومقالات ومناقشات عن علاقة المثقف بالسلطة، بوصفها رديفاً للسياسة، وغالباً ما جرت الدعوة إلى رد الاعتبار إلى الثقافة، لا عبر تحريرها من السياسة فهذا محال بالطبع، ولكن عبر الاعتراف بحيّزها الخاص المحكوم بقواعد ذات طبيعة ثقافية أو إبداعية، كون الثقافة تنتسب إلى العالم الروحي للإنسان الذي هو أميل إلى التجريد، إلى المطلق، فيما السياسة أقرب إلى الملموسية وإلى النسبية والتبدل السريع.
جرت في حالات كثيرة مبالغات في مثل هذه الدعوة بوصفها نوعاً من رد الفعل على سلبيات مراحل سابقة، التي جعلت أسماء لامعة في الثقافة العربية تحذر من مغبة هذا التمادي، وأن هذا قد يؤدي ضمن سياقات معينة إلى عزل المثقف عن الهمّ العام، ومن بين الذين أطلقوا صيحات التحذير هذه الراحلان محمود درويش وعبد الرحمن منيف، وكلاهما كان على علاقة مباشرة بالعمل السياسي، قبل أن يجدا في الثقافة والإبداع فضاءهما الأقرب إلى نفسيهما، ودعوة من اسمين بهذا الحجم في الثقافة العربية تسترعي الانتباه، خاصة إذا ما تيقنا من حقيقة أن الانحياز إلى الهمّ الوطني والاجتماعي في إبداعهما لم يجحف بالشروط الفنية للإبداع.
قرأتُ مرة رأياً للكاتب الراحل فتحي غانم عن الموضوع إياه، مؤداه أن الأدب أعلى من السياسة، لأن السياسي، والكلام له، «يتعلم من الأديب والعكس لا يحدث»، ولأن الأديب هو من يستكشف باستمرار ويعطي رؤية للمجتمع، إلى الدرجة التي تجعل من علم الاجتماع الحديث يلاحظ أنه لا يمكن معرفة شعب من الشعوب حق المعرفة دون أن نقرأ أدبه.
الفكرة الجوهرية في هذا القول هي أن الأدب أعلى من السياسة، والأغلب أنه ليس في الأمر مبالغة، بدليل أن السياسة متبدلة ومتحركة، والكثير منها يزول، أما الأدب فيبقى أثراً لكل الأجيال، بوصفه ذاكرة حيّة للناس ومرآة صادقة للحياة.
التعليقات