المعرفة النقدية ليست سعادة للجميع، ليست نعمة على الجميع.
بعضهم ينظر إلى هذه المعرفة كسعادة والبعض الآخر يراها بعين الريبة والحذر، بعضهم يراها جنة وآخر يراها جحيماً.
الأنظمة السياسية في العالم العربي تريد معرفة بمقاييس معينة، مقاييسها هي، معرفة لا تخرج عن رؤيتها ولا تخلق فتقاً أو خرقاً في جدار المناعة السياسية لديها، تريد ثقافة الطاعة.
مثل الطحالب تنبت مجموعة كبيرة مما يسمى مراكز البحوث ومخابر البحث ومراكز الفكر ومراكز الدراسات الاستراتيجية، هي مراكز بتسميات متعددة وبتخصصات مختلفة، في الاستراتيجيات وفي علم الاجتماع وفي علم الأناسة وفي الأدب وفي الذكاء الاصطناعي وفي الإعلام وفي الاقتصاد وفي الإحصاءات... في كل شيء وفي لا شيء.
تعمل هذه المراكز تحت عيون الرقيب السياسي الذي لا ينام، ففي البلدان العربية يجب على عقل المفكر والخبير والفيلسوف والفقيه والأديب أن يفكر بحسب عقل الحاكم، ألا يتجاوز تفكيره سقف الحرية التي يسمح بها هذا النظام السياسي أو ذاك.
الأنظمة العربية تخاف من الفكر الحر ومن الثقافة الجادة لأن هذه الأخيرة، أي المعرفة، قادرة، بل من أهدافها، زرع الأسئلة الجديدة لدى المواطنين البسطاء.
الفكر سؤال عن الحال، سؤال في طرق تغيير الحال.
الأنظمة العربية تخاف من التفكير الاقتصادي الجاد، فأي اجتهاد يجيء من علماء مخبر بحث ويكون على خلاف خططها الاقتصادية التي تسعى من خلالها إلى تسكيت العامة بالشعبوية، هذا الاجتهاد يعتبر زندقة وشططاً وسوء أخلاق، وعض على اليد التي تمنح النعمة!
الأنظمة العربية تريد أن تكون مراكز البحث والدراسات في بلدانها توأماً لمراكز الأمن والاستخبارات، فهي تريدها عكازاً لسياستها وأيديولوجيتها مهما كانت، لا تريدها أن تكون لا على جانب هذه السياسة أو نقداً لها أو حتى تفكيراً فيها. ترغب في أن يكون الباحث رجل استخبارات في خطاب العالم، يعمل على أمنها أولاً لا على تطوير مشروعها التنموي، إذا ما وجد هناك مشروع تنموي.
الأنظمة العربية تتصالح وتشتري أفكار المخابر التي تعيد تدوير سياستها.
الأنظمة العربية تريد أن تشتري أفكاراً من مراكز بحث، أفكار هي من أنتجتها، أي أفكارها هي والتي تمليها مباشرة أو غير مباشرة على الباحثين في المخبر أو مركز البحث، أي "بضاعتنا ردت إلينا"، فكلما كانت أفكار وتحاليل مخابر البحث متماهية مع أفكار النظام كان المخبر مرضياً عليه، وكان إغداق المالية عليه كثيراً.
المعرفة النقدية روحها وجوهرها الحرية، ومراكز البحث في العالم العربي تحتاج في المقام الأول إلى أوكسجين أساسي هو هذه "الحرية".
كلما ظهرت أفكار جديدة من مركز بحث ما، قد يحدث ذلك، وكانت مختلفة مع توجهات سياسة هذا البلد أو ذاك، تلصق بالباحثين كل أشكال الاتهامات، العمالة إلى الخارج والارتباط باليد الخارجية وتهديد الاستقرار وإثارة الفتن والتكفير والتهويد والخيانة الوطنية وما إلى ذلك من تهم خطرة وباطلة.
في ظل محاصرة مراكز البحوث والفكر والدراسات بالسياسة فإن البلد يظل معطلاً يراوح مكانه، وما يسمى استقراراً، كما تراه الأنظمة، يتحول شيئاً فشيئاً إلى تفسخ وتعفن سياسي واجتماعي.
على رغم أن موازنة البحث في كل البلدان العربية هي موازنة بئيسة مقارنة بما يصرف في البلدان الأوروبية والآسيوية والأميركية الصاعدة في هذا الباب، إلا أن هذ المال المقدم من قبل الدولة يراد له أن يكون قبل كل شيء لتبرير سياسة النظام السياسي ولتسويق أيديولوجيته قبل التفكير في الاكتشافات والاجتهادات والاختراعات.
لا تريد الأنظمة العربية أن يخترع لها مفكروها وعلماؤها أموراً جديدة في الاقتصاد والطب والعلوم والآداب إنما تريد أن يخترعوا لها قبل كل شيء طريقة لإعادة إنتاج نفسها، لتلميع سياستها.
المعرفة الناقدة المجتهدة مخيفة في أي بلد تغيب فيه الديمقراطية، والاجتهاد بكل مفاهيمه يعد زندقة في بلد يعمم عملة الشعبوية على السياسة والدين والاقتصاد والثقافة والعلم التقني.
كلما اختلط العلم والمعرفة والتعليم بالشعبوية كانت نهاية الاجتهاد والبحث.
كثير من البلدان تفتخر بأن التعليم فيها مجاني، وربما هذا شيء جيد باعتبار أنه يسهم في محو الأمية الأبجدية، لكن حين نتأمل هذا التعليم المجاني نجده عبارة عن عملية أيديولوجية الغرض منها صناعة أجيال متلاحقة داخل ماكينة أيديولوجية تحرس الأنظمة وتكرس وجودها من دون تغيير أو تبديل.
التعليم الذي لا يعلم حرية التفكير والنقد والمعرفة الحرة هو تعليم يعلم بالضرورة ثقافة الطاعة العمياء للأنظمة السياسية ويعلم طرق إعادة إنتاج سياستها وتدوير صورتها المنمقة في المخيال الجمعي لدى الأجيال المتلاحقة.
وبسهولة يرضى ويقبل الباحث في العالم العربي بالتبعية لأنه مجهز منذ المدرسة لمثل هذا الوضع، فهو نتاج نسق مدرسي رُكّب بطريقة الإيمان لا بطريقة النقد والشك والسؤال.
تكون الأنظمة العربية سعيدة ومرتاحة البال حين يؤمن مواطنوها بأن الكرة الأرضية مسطحة وأن الإنسان لم ينزل على القمر لأن القمر لا يوطأ وأن بول البعير يشفي من كل الأمراض وعلى رأسها السرطان وأن الزلازل سببها انتشار المثلية، ومع ذلك يؤسسون مراكز "للبحث" ولهم مطارات للطائرات وأجهزة كمبيوتر حديثة وشبكة إنترنت عالية التدفق وطرق سيارة وسيارات كهربائية ومطاعم أميركية للهمبرغر.
تصدر ما يسمى مخابر ومراكز البحث والدراسات مجلات كثيرة لا تُعدّ ولا تحصى في كل التخصصات، وتصدر أيضاً كتباً وكراسات في إشكاليات فكرية واجتماعية وما شابه ذلك، وتنظم ملتقيات دولية باللغة العربية وبالإنجليزية أيضاً يفتتحها أصحاب القرار ويغطيها الإعلام الرسمي والخاص تغطية كاملة، وتقوم القيامة في المدينة، لكن في نهاية المطاف لا أحد يقرأ هذا الذي ينشر في هذه المخابر من مجلات وكتب وكراريس وموسوعات، لا القارئ العادي يقرأ ما يخرج من هذه المخابر لأنه لا يثق بما يصدر عنها ولا الأنظمة نفسها تعمل بمخرجات هذه الملتقيات الدولية لأنها هي من تملي ما يجب أن يقال وما يجب ألا يقال في جلساتها إن بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
نعم، المعرفة النقدية مخيفة.
نعم، التفكير النقدي المجتهد مخيف للأنظمة السياسية لأنه يجعل المواطن يتساءل عن حاله، يجعله يعمل عقله، ويبحث عن طرق لتغيير حاله الاجتماعية والاقتصادية، والأنظمة تريد مواطناً - قطيعاً يقاد حيث يراد له لا حيث يريد هو، تريد صناعة مواطن بقدر مرسوم من المهد إلى اللحد.
الأنظمة تريد أن تفكر هي في مكان المواطن، بديلاً عنه، يسعدها المواطن الذي لا يشغل عقله.
إذا لم نفصل السياسة عن المعرفة، لن تنجح السياسة ولن نحقق معرفة قادرة على تقديم مشروع فكري جديد يقود إلى عملية التغيير التاريخي الإيجابي.
التعليقات