لم يكن أحد منا يتخيل هذا الاحتدام في العالم، نتيجة ذلك التغير في العالم من حولنا بقدر هذه السرعة الرهيبة من انضغاط الزمن وفي ثورة الحروب المفتعلة في العالم. فحين ظهر مصطلح العولمة كنا كمثقفين عرب نعمل على المؤتمرات المحلية والدولية والمشاركات الورقية وإصدار التوصيات لمناهضة هذا الفكر "الفلسفي" الجديد، الناتج عن تحولات تقنية واقتصادية وثقافية وبالتالي سياسية. ولم نكن نحن العرب من يناهض ذلك ويتخوف منه بقدر مناهضة كثيراً من مثقفين في أنحاء العالم لها.
فيقول "ورويك مواري" وهو أحد مفكري العولمة: "إن العولمة تشكل تهديداً للمجتمع والمحيط بطريقة تعيد أصداء الاستعمار في الماضي". كما يرى هو وآخرون "أن من المجموعات التي هُمشت بالفعل، خاصة في العالم الفقير هي من تنمو فيهم العولمة ولا تتقلص".
وكأنهم تلك البركة الراكدة أو المستنقع الذي يتكاثر فيه البعوض! واحتدمت الجدلية بين مناهض ومعارض حسب المصلحة والاستفادة منها كونها تعمل على ضغط الزمان والمكان، أو بمعنى أدق تعمل على "موت الجغرافيا"؛ لكي يحيا على رفاتها العالم الأوحد ذو القطب الواحد، مستخدما تكنولوجيا العولمة وخاصة الإنترنت، لنشر رسالتها؛ فجلبت أنصارا غير عاديين، مثل "جوزيف ستيجلز" وهو الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد ورئيس اقتصاد البنك العالمي السابق، حيث يرى: "أن الاجتماعات الهادئة سابقا لتكنوقراطيين مغمورين يناقشون مواضيع عادية مثل القروض الميسرة أو الحصص التجارية أصبحت الآن مشهدا لمعارك محتدمة، ومظاهرات ضخمة في الشارع؛ وكانت احتجاجات سياتل لمنظمة التجارة العالمية في العام 1999 صدمة منذ ذلك الحين، وأصبحت الحركة قوية أكثر، وانتشر الغضب.
إن كل اجتماع رئيس لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية هو الآن عمليا. مشهدا للصراع والاضطراب. وكان موت أحد المتظاهرين بجنوى في عام 2001 بداية لما يمكن أن يسبب خسائر إضافية في الحرب ضد العولمة، ومن الواضح للكل تقريباً أن شيئاً ما قد ساء بشكل مرعب".
وفي حقيقة الأمر أن "ستيجلز" قد سبقنا بكثير في استشعاره لهذا الرعب الذي نعيشه الآن من حروب وصراعات؛ والذي تنبأ به منذ سقوط أول ضحية في مظاهرات منددة! بل لو أنه كتب رأيه هذا الآن لكانت مصيبته ورعبه متفاقمان!
إن ما يحزننا الآن هو عدم الفهم لمعنى العولمة ومفهومها من بعض رموزنا الثقافية، وتلك مصيبة عملت على تفاقم المشكلة؛ ففي تقرير نشرته جريدة اليوم السعودية عن العولمة نجد خلطا بين العولمة والعالمية، برغم ذلك البون الشاسع بينهما فيقول أحدهم إن الإسلام عالمي وبالتالي فلا ضير!
ولم يدرك ذلك الفرق الكبير في أن الإسلام يعمل على اتساع الجغرافيا بينما العولمة تضغطها فتميتها (ضغط الزمن) ولها مدرسة جديدة في كل المجالات، لتفكيك العالم لدمج الكل في واحد، وهنا تكمن المشكلة في سوء فهمنا للعولمة.
وعلى أي حال فهناك تعريفات عديدة للعولمة؛ فيقول "تايلور" وآخرون: "العولمة مفهوم سلس ومرن جداً يصعب التعامل معه" أما دنيالز وآخرون فهم يسلطون الضوء على الجدل حول استعمال المصطلح وتعريفه: "أنه مصطلح متنازع عليه يرتبط بتحول العلاقات المكانية التي تشمل تغييرا في العلاقة بين المكان والاقتصاد والمجتمع". أما روجروك وفان تولد في كتاب عن العولمة (التحولات العالمية): "أن العولمة هي عملية "أو مجموعة عمليات" تجسد تحولا في التنظيم المكاني للعلاقات والمعاملات الاجتماعية التي تُقَّيم من حيث اتساعها وانتشار كثافتها وسرعتها وتأثيرها مولدة تدفقات وشبكات من النشاط والتفاعل وممارسة للسلطة عابرة القارات وإقليمية".
ومما لا شك فيه أن من المهمات الكبرى للعولمة محو القومية والهوية؛ فيقول ووترز: "هناك تمرين مفيد للبحث عن التعريف وهو "كيف سيبدو عالماً معولماً بكل معنى الكلمة؛ مجتمع واحد وثقافة عالمية متجانسة واقتصاد عالمي واحد، وغياب الدول القومية.. وهي عملية تتراجع فيها قيود الجغرافيا على التنظيمات الثقافية والاجتماعية".
وهنا يكمن الانضغاط الزمكاني كما يرى "هارفي" في عام 1979. ولعل أقرب هذه التعريفات وهو ما ينطبق على ما يجري في وطننا العربي اليوم، هو تعريف ورويك مواري وهو أن "العولمة هي مجموعة من عمليات الأفعال البشرية الجدلية التي تُحدث شبكات محلية - محلية فردية- فردية من التضمين/ الضغط، والتي تتجاوز بشكل متزايد الحدود الوطنية/ الإقليمية وتتمدد لتصبح عالمية في الحجم".
وهذا ما امتدحه فريدريك وأنديك وفريدمان وغيرهم في مؤتمر الربيع العربي في المعهد البريطاني للتغيير عام 2012 للشباب العربي الجديد، حيث قالوا عنه: إنهم أفضل من أبائهم لأنهم يتمتعون بثقافة خارجية ولا يؤمنون بالقومية والهوية من وجهة نظرهم؛ وقد تناولنا ذلك بشيء من التفصيل في مقال سابق بعنوان (الأناركية).
وللتغييرات الواسعة في الجغرافية البشرية هدف لتحقيق هذه المدرسة الفكرية، وخاصة المنعطف الثقافي والسياسي "يحاول هذا الحقل المعرفي الفرعي الآن أن يقدم تفسيرات كلية للتغيير، وهو أكثر حساسية للتاريخ وتفرد المكان، وهو أكثر رغبة في التعامل مع الجذور الثقافية التي تقود الفكر والاقتصاد، ويدمج التحليل النوعي لفهم النشاط وتأويله.. والأهم هو الإدماج للتحليل الأخلاقي (بمعيار "الصواب والخطأ" للتغيير) كما يرى مواري.
إن من أنشأ المصطلح وسوق له هم المفكرون الأمريكيون، لجعل العالم واحدا وذا قطب واحد مع إبعاد المجتمعات القومية وإزاحة مفهومها القومي، وكان ذلك في ظل تراجع الاتحاد السوفيتي والتغييرات التي حدثت للعالم بعد سقوط جدار برلين عام 1989؛ إلا أننا نرى أن الأخير يعود وبقوة لإحداث التوازن في كتلتين كانت إحداهما متوارية أو خافتة بعض الشيء؛ على من هو الفائز بقطب العولمة كونها أصبحت واقعا؛ ويمكن أن تكون إيجابية، لأن موراي يقول: "العولمة ليست قدرا محتوما ولا تتبع مسارا تطوريا، فهي نتيجة لأفعال بشرية واختيارية سياسية محددة. الآثار السياسية لهذا الرأي إصلاحية، فللمواطنين وللدول القومية دور تؤديه في مقاومتها وضبطها، والعولمات البديلة والتقدمية ممكنة. على هذا النحو، يمكن للعولمة أن تسفر عن نتائج إيجابية أو سلبية اعتمادا على الطريقة التي تبنى بها. فالمهمة الأساس إذن هي تغيير طبيعة العولمة من خلال الفعل البشري".
وبالتالي نجد هذا التقابل بين الميزانين الظاهر في الأفق على الساحة السياسية بين أميركا وروسيا، على أن تفوز إحداهما بالثقل الاقتصادي في منطقتنا والتي نعتبرها بطبيعة الحال هي وقود التحقق العولمي قيادة القطب الواحد على حساب الآخر. بينما نجد فشل هذه المدرسة في تحقيق الأمن والسلام العالمي والحرب في غزة خير دليل على هذا.
التعليقات