يبدو أن عامين كاملين غير كافيين لإنهاء الحرب الأوكرانية التي أكملت عامها الثاني، يوم السبت الماضي. فعلى العكس من المؤشرات التي تكشفت في مؤتمر «ميونيخ للأمن» الأخير، وحسب ما ورد في صحيفة «بوليتيكو» الأمريكية، بخاصة تشكيك المشاركين في قدرة أوكرانيا على الانتصار، حتى بموافقة الولايات المتحدة على حزمة المساعدات الجديدة المعلقة في الكونغرس والبالغة 61 مليار دولار، جاءت أعمال المؤتمر الدولي (الأوروبي) الذي استضافته فرنسا، يوم الاثنين الماضي، بدعوة من رئيسها إيمانويل ماكرون، وخطاب ماكرون الختامي، على وجه الخصوص، لتؤكد أن الصراع في أوكرانيا على أبواب الدخول في مرحلة جديدة، ربما تكون أوروبا هي الطرف المواجه لروسيا، وليس أوكرانيا فحسب، في هذه الحرب.
أعمال هذا المؤتمر الذي حضره 4 رؤساء دول: فنلندا ورومانيا وبولندا وليتوانيا، و15 رئيس حكومة، أبرزهم إلى جانب المستشار الألماني شولتز، رؤساء حكومات إيطاليا وإسبانيا وهولندا والنرويج والبرتغال والدنمارك، إلى جانب عدد من وزراء الخارجية، ولم يمثل الولايات المتحدة في هذا المؤتمر إلا مساعدة وزير الخارجية، وغابت عنه دول مثل المجر وسلوفاكيا والنمسا، كشفت عن واقع «الانقسام» ليس فقط الأوروبي- الأوروبي، بتعمد غياب دول عن المشاركة، بل وأيضاً الانقسام الأمريكي- الأوروبي، فالولايات المتحدة تكاد تكون غائبة عن هذا المؤتمر، ولعل هذا ما جعل الرئيس الفرنسي يعطى أولوية لهدف «توحيد الموقف الأوروبي» من الحرب الأوكرانية، عندما أكد قبل بدء الاجتماع، أن هذا المؤتمر سيشكل فرصة للمشاركين «لتأكيد وحدتهم وعزمهم على هزيمة هذه الحرب العدوانية التي تخوضها روسيا في أوكرانيا».
وإضافة إلى واقع حالة الانقسام الأوروبي، بخاصة إزاء مسألة تباطؤ الدعم العسكري لأوكرانيا، كان واضحاً أن أجواء «انكسار الصمود الأوكراني» أمام قوة الاندفاع العسكري الروسي في الأشهر الأخيرة، بخاصة بعد سقوط مدينة أفدييفكا (في منطقة دونباس)، وشكوى أوكرانيا من ضعف تزويدها بالأسلحة والذخائر اللازمة، إلى جانب ضبابية سياسة الدعم الأمريكية لأوكرانيا حيث ما زالت الإدارة الأمريكية عاجزة عن تمرير صفقة مساعدات لأوكرانيا في الكونغرس، قد سيطرت على أعمال ذلك المؤتمر، وحددت أهدافه وأبرزها، أولاً إعادة تعبئة ودرس كل الوسائل لدعم أوكرانيا بشكل فعّال، وإخراجها من الوضع الميداني «السيئ» الذي تعانيه، وثانياً دحض الانطباع بأن الأمور تنهار، وإعادة تأكيد التصميم على «إحباط العدوان الروسي»، وإرسال رسالة واضحة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه «لن ينتصر في أوكرانيا، ولن يكون لروسيا انتصار في أوكرانيا».
وجاء الخطاب الختامي للرئيس الفرنسي في المؤتمر ليكشف عن توجه أوروبي جديد إزاء الحرب الأوكرانية، وهو التلويح بأمرين، أولهما احتمال إرسال قوات أوروبية لتقاتل في أوكرانيا، وثانيهما، تشكيل «تحالف» من حلفاء أوكرانيا يستهدف تسليم صواريخ متوسطة وطويلة المدى إلى أوكرانيا. وهدف هذا التحالف، حسب قول الرئيس ماكرون «توجيه ضربات في العمق» الروسي.
هذا يعني أن العام الثالث الجديد من عمر الحرب الأوكرانية الذي بدأ منذ أيام سيكون عام الحرب الأوروبية ضد روسيا، وربما يكون الحرب الأوروبية- الأمريكية ضد روسيا، وأن الحلفاء الغربيين لن يكتفوا بدور الداعم العسكري والاقتصادي والمعنوي لأوكرانيا، ولكن الدخول كطرف مباشر في الحرب.
وخطاب «التطرف» الذي أدلى به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في «مؤتمر الإليزيه» يطرح تساؤلات مهمة حول جديته ودوافعه من ناحية، ويطرح تساؤلات حول مستقبل مؤتمر تسوية الوضع في أوكرانيا الذي يجري الإعداد لانعقاده في سويسرا الربيع المقبل، لمناقشة «خطة السلام الأوكرانية» التي سبق أن تقدم بها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. هل التوجه الجديد هو تجاوز لهذا المؤتمر والعودة مجدداً أوروبياً إلى ساحة الحرب لفرض واقع عسكري جديد تنهزم فيه روسيا، ومنه تفرض الشروط عليها؟
واضح أن أوروبا باتت معرضة لثلاث صدمات، الصدمة الأولى، هي شبح هزيمة عسكرية لأوكرانيا باتت تلوح في الأفق، يخشى منها على الأمن والاستقرار في أوروبا، ومن هنا جاءت إشارة الرئيس الفرنسي في خطابه الختامي إلى أن هزيمة روسيا «ضرورية لضمان أمن الأوروبيين».
الصدمة الثانية، هي الانقسام الأوروبي إزاء الحرب الأوكرانية، وتراجع الدعم العسكري، وهو انقسام يعبّر عن متغيرات جديدة، أبرزها عنف التداعيات الاقتصادية للحرب الأوكرانية على كثير من دول أوروبا، كما يعبّر عن تحولات اجتماعية – أيديولوجية تحدث في دول أوروبية، بالاتجاه نحو اليمين المتطرف العازف عن «الوحدة الأوروبية»، ولذلك جاء خطاب ماكرون «تحفيزياً»، وجاءت إشارته إلى مجرد «احتمالية» خيار المشاركة الأوروبية في الحرب الأوكرانية، وليس تأكيد هذا الخيار، على نحو ما أشار إليه بأنه «أمر لا يمكن استبعاده». أما الصدمة الثالثة والأهم، فهي خطر عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إلى الرئاسة الأمريكية بعد أن أضحى الأقرب إلى ترشيح الحزب الجمهوري له في الانتخابات الأمريكية المقبلة، في ظل مواقف عدائية سابقة لترامب من أوروبا، وحلف الأطلسي، وفي ظل تصريحات جديدة له أكثر عدوانية.
ثلاث صدمات تؤكد جدية أن أوكرانيا أضحت علامة استفهام كبيرة للمستقبل الأوروبي.
التعليقات