في بنوك الحاضر تتحول القرارات الشجاعة إلى ودائع في بنوك المستقبل، القفزات الكبرى تحتاج إلى توافق الإرادات. التوافق يتحدث عن نفسه بين مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة.

رأس الحكمة ليست مجرد فكرة، أو مشروع استثماري، أو مدينة ذكية عملاقة، إنما هي رؤية، وإرادة وقوة، تتسق مع مفهوم الجمهورية الجديدة التي تؤكد يوماً بعد يوم أنها قادرة على المبادأة، والمبادرة، والعبور، والاستجابة للتحدي والنصر.

يوم الجمعة 23 فبراير، شهدت العاصمة الإدارية الجديدة، توقيع أضخم مشروع استثماري بين مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة، بحجم استثمارات يصل إلى 35 مليار دولار. لحظة التوقيع هذه هي واحدة من لحظات كبرى شهدتها مصر، وأخرى قادمة في الطريق. الدلالات عميقة، والمعاني أعمق.

ثمة شراكة استراتيجية بين البلدين تاريخية ومستمرة، والبلدان يلتقيان دائماً في اللحظات الفاصلة. وسجل التاريخ مليء بالصفحات المضيئة خلال نصف القرن الماضي، علاقات تتمتع بعمق استراتيجي يتطابق مع رؤية البلدين وقيادتيهما. توثقت في السنوات الراهنة، وصلت إلى التحالف الاستراتيجي الكبير.

مساحات الثقة بين مصر والإمارات على مختلف المستويات، فتحت الطريق إلى هذا النوع من الشراكات الاستراتيجية العملاقة، وكتبت ميثاقاً نحو المستقبل، بدأت فصوله من أزمنة ماضية وصولاً إلى «رأس الحكمة» وما سيأتي مستقبلاً.

ولا شك أن الاستثمار في رأس الحكمة هو فاتحة يقاس عليها في مشروعات كبرى قادمة، بين البلدين، لاسيما أننا أمام قيادتين تتطابق رؤاهما السياسية في خدمة قضايا المنطقة والإقليم، والإسهام في استقرار النظام الدولي، والتعاون على مستوى الأفكار التي تهتم بها القوى العظمى، خصوصاً أن البلدين يتمتعان بعلاقات وثيقة مع جميع قوى العالم على المسرح الدولي.

هناك تناغم وتفاهم وتعاون في شتى القضايا، والبلدان يحظيان باحترام حتى من القوى المتنافسة بالشرق والغرب، لذا، فإنني أؤكد أن مشروع «رأس الحكمة» سيكون بمثابة نواة صلبة لعالم عربي جديد، يندمج ويتعاون معاً في مشاريع استراتيجية كبرى، تقوم على فلسفة «توطين عروبة الاستثمار».

مشروع رأس الحكمة هو بداية ماراثون طويل، عنوانه توطين «العملقة» الاقتصادية، فالعصر الراهن هو عصر عملقة كل شيء، وهذا يتفق مع الفلسفة المصرية التي قررت عن يقين بأن تبني دولة وطنية شاملة، في قلب الحداثة المعاصرة بين الأمم التي تتنافس على الوجود الاستراتيجي على المسرح الدولي.

ولعلنا نتذكر كيف استطاعت مصر عبور عواصف وأعاصير الفوضى المنظمة إبان ما يسمى «الربيع العربي»، وكان هناك من يعتقد أن مصر توقفت عن الإبداع والابتكار، وأصبحت في «عزلة الفوضى»، لكن هؤلاء لم يدركوا جوهر التجربة المصرية القائمة على الصبر الاستراتيجي، وإرادة البقاء، ومن ثم التقدم وتجاوز جميع الخطوط والأسلاك السياسية الشائكة.

وقد رأينا مشهداً عاماً لسيناريو الفوضى، لكن مصر هي الدولة الوحيدة على مستوى العالم، في القديم والحديث التي تمكنت من العودة إلى قوتها وهويتها، خلال ثلاثين شهراً من أحداث يناير 2011، وإن لم تخنِ الذاكرة فإن هذه العودة لم تحدث لأية أمة من الأمم، ولا لأي شعب من الشعوب كان قد واجه نفس الظروف ونفس الأحداث، لكن مصر صاحبة الانبثاق الذاتي، والتكوين الحضاري، تعرف الطريق إلى الحفاظ على مقدرات شعبها العظيم، وهويتها المتفردة، وحبالها المتينة مع محيطها القريب والبعيد، وفي العصور الراهنة تمتعت بعلاقات عميقة مع أشقائها العرب في كل المحطات التي مرت بإقليم الشرق الأوسط، في الماضي والحاضر. فهي واسطة العقد العربي في كل وقت.

الأشقاء يدركون هذا المعنى ويقدرونه عبر التاريخ، ومصر تعترف دائماً بأدوار الأشقاء، فالأمة واحدة، والمصير واحد.