طالما كانت الهزّات الكبرى طريقاً إلى التحولات المجتمعية، فهل يفتح الاضطراب الشامل الذي تعيشه اليوم منطقةُ الشرق الأوسط هذه الطريق؟ ليس من مؤشرات على ذلك.

منذ أكثرَ من مائةِ عام على سقوط السلطنةِ العثمانية وقيام دول المنطقة، لم يستطع أيُّ نظام من أنظمة المشرق العربي (ومن أنظمة المغرب أيضاً) تحقيقَ مهمة الدولة الحديثة في تحويل مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد/ المواطنين. بل على العكس من ذلك، في ختام هذا المسار التاريخي الطويل، اشتدَّت قوة الجماعات ويقظتها، الجماعات الطائفية والمذهبية والقومية والإثنية والقبلية والعائلية وغيرها، واشتدت صراعاتها.

ولم يكن مسار حركات التغيير طوال هذا الزمن بأفضل من مسار الأنظمة الحاكمة. إن كان مسار الحركات التي وصلت إلى الحكم، الناصرية في مصر، والبعث في سوريا والعراق، أو التي لم تصل، خصوصاً الماركسية.

ولعلَّ الماركسية كقوة تغيير، عرفت أوّجَ قوتها في لبنان عشية حرب 1975، في عزّ نفوذ الاتحاد السوفياتي، وفي زمن هيمنة الفكر الماركسي على حركات التغيير والتحرير في العالم، وعلى معظم النخب المثقفة في كل مكان. لكن نظرة الماركسية آنذاك إلى الواقع اللبناني كان فيها من عمى الرؤية ما ينبئ تماماً بمدى فشلها لو وصلت يوماً إلى سدّة الحكم. إذ، بينما كان الصراع في لبنان جلياً للعيان وطائفياً بامتياز، أصرّ الماركسيون على نظريتهم بأن النزاع الطائفي انتهى في المجتمع اللبناني وتكرّس فيه الصراع الطبقي. وليجدوا مخرجاً لهذه الرؤية العجيبة، اخترعوا نظرية الطائفة - الطبقة. لكن فيما بعد، كانت للكثير من قياداتهم جرأة إعادة النظر والنقد الذاتي والاعتراف بالخطأ، والإقرار بنصيبهم من المسؤولية في الحروب التي أدمت بلادَ الأرزّ. وقد دفع جورج حاوي، الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني، حياتَه ثمناً لهذا التوجّه الجديد.

منذ قرن من الزمن يراوح حلم التغيير المجتمعي في المشرق مكانه، ويدور في الحلقة المفرغة نفسها. وذلك على الرغم من التحولات الخطيرة الكبرى التي انتابت المنطقة. طالما كانت الحروب، والثورات، وحروب التحرير، وسقوط الأنظمة، طريقاً إلى تغيرات عميقة في العالم الحديث. لكن ذلك لم ينطبق على المنطقة العربية. لا رحيل الاستعمار الغربي وبروز الدول المستقلة، ولا قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين وتهجيره شعبها، ولا الانقلابات العسكرية التي أودت بالأنظمة الملكية وأتت بالأنظمة الجمهورية، ولا الحروب العربية - الإسرائيلية المتوالية، ولا الانتفاضات الفلسطينية، ولا التحركات الشعبية العارمة في لبنان، كما في مختلف أنحاء العالم العربي، استطاعت فتح الأفق أمام حلم التغيير والانطلاق نحو مجتمع جديد.

فمن غرائب القدر أن تكون انتفاضة 14 مارس (آذار) الكبرى، التي أجلت القوات السورية عن لبنان، قد قادت في نهاية المطاف إلى «الاتفاق الرباعي» وإلى «اتفاق مار مخايل»، ومن ثم إلى «التسوية الرئاسية». عود على بدء، كأنَّ تلك الانتفاضة لم تكن. ومن غرائب القدر أن يؤدي «الربيع العربي»، الذي أذهل المنطقة والعالم، فيما أدَّى إليه، إلى وصول «الإخوان المسلمين» إلى حكم مصر، كبرى دول العالم العربي، بتأييد من أميركا أوباما وسائر الغرب، من دون اكتراث باحتمال تمدد هذا الحكم إلى سائر دول المنطقة. وها هي الانتفاضة الأخيرة، انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 اللبنانية، لا تجد من يستمرّ فيها ويرفع لواءَها في شوارع لبنان وساحاته، وسط الانهيار العظيم.

قرنٌ من حلم التغيير المستحيل، ما سرّه؟ إذا كان التغيير الفعلي يكمن في تحوّل مجتمع الجماعات المتنافرة إلى مجتمع الأفراد/ المواطنين، المنسجمين في بنية الدولة، هل ما زال من رهان على الوصول ذات يوم إلى هذا التحوّل في المشرق العربي؟ ضباب كثيف في وعي الجماعات وفي لاوعيها، وضباب كثيف في عالم الألفاظ والمفاهيم وطرق التعبير، يلفّان هذا التساؤل.

غني عن القول أن هذه الرؤية التغييرية مستمدة من تجربة الغرب في الأزمنة الحديثة، منذ نهضة القرن السادس عشر في أوروبا إلى اليوم، وهادفة إلى التماهي معها بشكل أو بآخر، كنموذج ومثال. لكن إذا قسنا الواقع المشرقي الراهن بالواقع الغربي، بعد أكثر من مائة عام على زوال السلطنة العثمانية، ماذا نجد؟ نجد أنه على مستوى البنى المجتمعية، ما زال مجتمع الجماعات في المشرق يُذكّر، في نواحٍ كثيرة منه، بما كان عليه المجتمع الأوروبي الغربي مطلع القرن الثامن عشر، أي قبل الثورة الصناعية، وفكر التنوير، والثورة العلمية، والثورة الفردية، والثورة الفرنسية الكبرى. وعلى مستوى البنى الذهنية، وعلاقة المقدّس بالدنيوي، ورؤية الكون والتاريخ وحركة التطور، يذكّر مجتمع المشرق، في نواحٍ عدّة منه أيضاً، بما كانت عليه المجتمعات الأوروبية في القرن الخامس عشر، قبل عصر النهضة. وحول مفهوم الشعب، قياساً لما هي عليه الكيانات الأوروبية حيث شعوب الأفراد/ المواطنين، لا تضم كيانات المشرق شعوباً مكتملة النسيج، بل مشاريع شعوب، يتعايش فيها قدر من الجماعات المتمايز بعضها عن بعض، غير القادرة على الاندماج العميق ولا التوحّد.

هل ما زال ثمة أمل في انتقال المشرق من مجتمع الجماعات المتباينة إلى مجتمع الأفراد/ المواطنين؟ ما يزيد الأفق انسداداً، ضباب الألفاظ والمفاهيم والمقولات التغييرية السائدة، حيث الكلام الكثير، الواثق بنفسه، الذي يغني عن الواقع ويحلّ محله، ولا يوصل إلى مكان. منذ اليقظة الفكرية العربية في القرن التاسع عشر حتى اليوم، قدر لا حصر له من طروحات التغيير، في قدر لا حصر له من المؤلفات والأبحاث والمقالات والدعوات والخطب، الملتقية كلها على إلغاء الطائفية، ونبذ القبلية والعشائرية، وإدانة التعصب، وشجب كل أشكال الإقطاع السياسي، وكل أشكال الفساد والاستغلال، ومحاربة الجهل، والدعوة إلى الإصلاح، وتكريس الحريات العامة، والإشادة بالحداثة وإنجازاتها، وبالانفتاح على الآخر وعلى العالم، وتحقيق تكافؤ الفرص، والمطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة، وإعلاء شان العقل النقدي، والمطالبة بالدولة المدنية، وسوى ذلك من طروحات سخية يضيق المكان بتعدادها.

لكن كل هذا التراكم الفكري واللفظي الطويل لم يصل إلى نتيجة على أرض الواقع. فهو صبّ ويصبّ في الحلقة المفرغة نفسها التي يدور فيها حلم التغيير منذ مائة عام. عبارة صغيرة سحرية واحدة تنقص: «ما العمل؟». ما هي وسائل العمل الواضحة، الدقيقة، القابلة للتنفيذ، لتحقيق التغيير؟ ثمة فجوة كبرى في هذا المكان، يصعب ردمها.

هل تستحيل الإجابة حقاً عن «ما العمل؟» لتحقيق التغيير في مجتمعات المشرق؟ بعد كل الزمن الذي انقضى والذي سينقضي، لا شك في أن هذه الاستحالة ناجمة عن عوامل بنيوية عميقة لا يمكن تخطيها. وماذا إذا كانت بين هذه العوامل طبيعة الدولة نفسها، حيث تتعايش الجماعات وفقاً لجدلية التجاذب والتنافر والخوف المتبادل؟ من جهة أخرى، لا شك في أن النموذج الغربي فقد بعض وهجه، أو ربما الكثير منه، وأن مجتمعات الأفراد/ المواطنين تعاني، هي أيضاً، مشكلات لا يسهل حلها. لكن على الرغم من ذلك، ليس حولنا من نموذج متكامل للحداثة، يمكن التوقف عنده وتقييمه وانتقاده واستلهامه، غير هذا النموذج.