مع كل لقاء عابر أو مرتَّب مسبقاً بين مسؤول مصري ونظيره الإيراني يُفتح مجدداً ملف العلاقات بين البلدين، وهل من أفق لحدوث انفراجة في علاقاتهما، وتجاوز مرحلة التباعد بينهما؟ سؤال مركزي طُرح مراراً، لا سيما بعد أن تكررت لقاءات وزيري الخارجية شكري وعبداللهيان مرات عدة في العام الماضي وأخيراً في اجتماعات مجلس حقوق الإنسان بجنيف. وبينما تبدو إيران مُرحِّبة باتخاذ خطوة مباشرة نحو عودة العلاقات الدبلوماسية كاملة، تبدو مصر متحفظة بعض الشيء، واهتمامها الأول يكمن في وضع ضوابط، وفقاً لتعبيرات وزير الخارجية سامح شكري للعلاقات بين البلدين في المستقبل؛ أهمها الابتعاد عن التدخل في الشؤون الداخلية، والإسهام في الاستقرار الإقليمي، وبناء مصالح متوازنة، مع الأخذ في الاعتبار أن ثمة ملفات ستظل مثار تباين، تتطلب حواراً متدرجاً وهادئاً في الآن نفسه.

الترحيب الإيراني بعودة العلاقات مع مصر له ما يبرره إيرانياً وإقليمياً، ففي الداخل ثمة مشكلات كبرى تُقلق النظام بشكل عام، كتراجع التأييد لدى الأجيال الشابة، والأزمة الاقتصادية، وكلاهما ظهرت تأثيراته في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في الأول من مارس (آذار) الجاري، حيث انخفاض نسبة المشاركة، وانحسار المنافسة بين كتل المحافظين، وانسحاب كامل للإصلاحيين المعتدلين. وهي مشكلات موروثة منذ أكثر من عقدين يمثلان نصف عمر النظام. في الآن ذاته تكتسب إيران في النطاق الإقليمي درجة من النشاط والتأثير عبر امتداد نفوذها لقطاعات محلية في عدد من الدول العربية، وتطور صناعاتها العسكرية، وتحولها إلى أحد البائعين المهمين للأسلحة التقليدية والصاروخية والطائرات المسيّرة، وحدوث انفراجات مهمة مع دول الخليج، وفي المقدمة المملكة العربية السعودية.

المفارقة بين القلق في الداخل والنفوذ في الخارج تؤدى دوراً مهماً في حرف الاهتمامات الداخلية عن القضايا الحياتية التي تعصف بقطاع كبير من الإيرانيين. وبالتالي يزداد الحرص الإيراني الرسمي على تحقيق مزيد من النجاحات الخارجية لعلها تساعد على تعديل الاتجاهات إزاء النظام، وتُهدئ مصادر التوتر. في هذا السياق تُعد مصر رصيداً مهماً لطهران في حال أُعيدت العلاقات الدبلوماسية معها، وثغرة كبرى في سياسات الحصار الأميركية والأوروبية.

مصر من جانبها تأخذ جانب الحذر، بعضه يعود إلى خبرات سلبية سابقة في التعامل مع إيران، حين كانت سياسة «تصدير الثورة» في أوجها منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وقام دبلوماسي إيراني شاب في مكتب رعاية المصالح الإيرانية تحت مظلة سفارة إحدى الدول الأوروبية بالقاهرة، بزيارات إلى قرى في الصعيد المصري من دون إخطار الخارجية المصرية، مما أثار التساؤلات لدى جهات مختلفة، دينية وأمنية، حول حقيقة دوافع تلك الزيارات، ومن ثَمَّ ارتفع مستوى الحساسية لدى تلك الجهات من أن تكون هناك صلة بين تلك الزيارات وبين سياسة «تصدير الثورة»، ببعديها السياسي والديني.

وهناك ملفات أخرى معروفة تفاصيلها، من قبيل الانتقادات الإيرانية الكبرى للمعاهدة المصرية - الإسرائيلية، والرسم الجداري الكبير لخالد الإسلامبولي، قاتل الرئيس السادات، في أحد أهم شوارع العاصمة طهران... قيَّدت التوجه المصري نحو استعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران. تغير الأمر جزئياً في فترة حكم الرئيس محمد خاتمي التي امتدت فترتين؛ من أغسطس (آب) 1997 إلى أغسطس 2005، حيث كانت سياسته الخارجية تقوم على الحوار الإقليمي، والتخلي المتدرج عن «تصدير الثورة»، والسعي نحو تطبيع العلاقات الإيرانية مع المحيط الإقليمي الأوسع، وبما يشمل عودة العلاقات الدبلوماسية مع القاهرة، التي بدت آنذاك أكثر مرونة في اختبار النيّات الإيرانية الجديدة، حيث بدأ حوار بين مجموعة من الباحثين المصريين من مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام وأكاديميين متخصصين بالشأن الإيراني، ونظراء لهم من مركز الدراسات الاستراتيجية التابع لوزارة الخارجية الإيرانية، وأكاديميين إيرانيين، وعُقدت ندوات دورية بين القاهرة وطهران استمرت ما يقرب من عامين ونصف، وفي هذه الندوات التي شاركت فيها، طُرح كثير من الأفكار حول الهواجس المتبادلة، مع تفكير في كيفية عودة علاقات البلدين والخطوات التمهيدية لها. كان من بين المشاركين في هذه الحوارات مسؤولون من كلا البلدين بصفتهم الشخصية، ومنهم مقربون جداً من الرئيس خاتمي، ومصريون لهم صلات مع مؤسسات رسمية، الأمر الذي أظهر جدية الطرفين في احتواء نقاط الخلافات المختلفة، والبحث عن حلول لها، بما في ذلك معالجة الرسم الجداري للإسلامبولي، وصيغة إعلان عودة العلاقات الدبلوماسية، التي وضُعت لها عدة صياغات حيادية للغاية.

لم تكن هذه الحوارات سلسة، لا سيما الدورة الأولى في طهران، حيث تأثرت بالانقسام العميق السائد آنذاك بين الإصلاحيين برئاسة خاتمي، والمحافظين المدعومين من المرشد الأعلى خامنئي، والذين كانوا يوجّهون سهام النقد إلى تلك الحوارات غير الرسمية، ويعملون على إفشال خطط الرئيس خاتمي، ويضعون العراقيل أمام أي خطوة ذات طابع تنفيذي. مصر الرسمية من جانبها كانت تتابع حصيلة الأفكار المتبادَلة، وحين تنظر إليها من زاوية الانقسام في السلطة الإيرانية، إذا بها تزداد حذراً، وتُعلي من شأن سياسة الانتظار. ومع نهاية عهد خاتمي توقفت تلك الحوارات، لكن ظل أبرز دلالاتها أن انقسام السلطة في إيران يعزز المخاوف الإقليمية، ويدفع إلى مزيد من الحذر في التعامل مع طهران.

تغيُّر الخريطة السياسية في إيران خلال العقدين الماضيين، نحو هيمنة المحافظين على دولاب السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، رافقته تغيرات كبرى في النظام المصري، من قبيل سقوط نظام مبارك، ومغامرة حكم «الإخوان»، وتعديل المسار السياسي كلياً بعد 2013، فضلاً عن تغير خريطة التفاعلات الإقليمية، معززةً بتداعيات الحرب الأوكرانية، والتغلغل الصيني في الشرق الأوسط، والعدوان الإسرائيلي على غزة وتداعياته الكارثية إنسانياً وأمنياً، ومشاركة أطراف محسوبة على إيران في محاولة توجيه مسارات السياسة الإقليمية نحو مصالح شديدة التباين، كلها متغيرات تُعيد بلورة قضية العلاقات المصرية - الإيرانية على نحو مغاير تماماً للمساعي السابقة، فالإقليم يمر بمرحلة صاخبة، مفتوحة على تحولات كبرى، تستدعي بدورها منهجاً جديداً للتكيف مع تلك التحولات المرتقبة، أبرز وأهم خطواته التخلي عن سياسة الانتظار، والمبادأة بخطوات محسوبة تُبنى على المشتركات، وهي كثيرة بين القاهرة وطهران، لا سيما الاستقرار الإقليمي، الذي يهم البلدين وأمنهما القومي، والحوار المكثف بشأن ما هو دون ذلك، وهو قليل.