أثار فوز السياسي البريطاني جورج غالاواي بعضوية مجلس العموم عن دائرة شهدت انتخابات فرعية هذا الأسبوع أصداءً واسعة في السياسة البريطانية. ويعود ذلك ربما لشهرة غالاواي وانتقاداته اللاذعة للمؤسسة الحاكمة في بريطانيا وسياساتها الخارجية تحديداً، ربما أكثر من تصويت الناخبين في تلك الدائرة له بسبب اعتراضهم على سياسة حزب المحافظين الحاكم وسياسة حزب العمال المعارض فيما يتعلق بالحرب على غزة.
الواضح أن حرب غزة أصبحت قضية مهمة انتخابياً في بريطانيا مع اقتراب موعد الانتخابات العامة ربما في مايو/أيار، أو سبتمبر/أيلول من هذا العام. ذلك على الرغم من أن الناس تقليدياً في الديمقراطيات الغربية لا تصوّت في الانتخابات، عامة أو محلية، على أساس قضايا السياسة الخارجية، وإنما على أساس ما يمسّ حياتهم اليومية خاصة من مسائل تتعلق بالاقتصاد والخدمات.
غالاواي معروف بمواقفه في ما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط. فقد كان من أعلى الأصوات انتقاداً لغزو العراق واحتلاله قبل عقدين من الزمن.
من قبل ذلك، غالاواي من المناصرين للحقوق الفلسطينية والمدافعين عنها في وجه الاحتلال، ويعتبره أصدقاء إسرائيل من أشد المعادين لها في بريطانيا. ولأنه مفوّه ويملك مهارات في التعامل مع الإعلام، فقد كان صوته دوماً مميزاً وفي الوقت نفسه «مزعجاً» للتيار السائد في السياسة البريطانية المساند لإسرائيل.
كان غالاواي عضواً في حزب العمال المعارض قبل أن يطرد منه منذ نحو عقدين، ومنذ ذلك الحين أخذ على عاتقه فضح مواقف الحزب في كل مناسبة، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الخارجية، وفي القلب منها الموقف من قضايا منطقتنا. مع ذلك ففوزه بعضوية البرلمان قد لا يعني موجة كاسحة من التمرد على حزب العمال المعارض بسبب موقفه المؤيد للاحتلال في حرب غزة. وأيضاً مواقف قيادة الحزب بزعامة كيير ستارمر التي تكاد تتطابق مع حكومة حزب المحافظين في قضايا أخرى غير غزة وفلسطين.
ومع أني، كمواطن ملتزم بالقانون ودفع الضرائب ربما أكثر من رئيس الوزراء نفسه، أحرص على التصويت في الانتخابات وغالباً ما كنت أصوت لحزب العمال. لكن هذه المرة لن يذهب صوتي للعمال، رغم أنه من الصعب طبعاً أن أصوّت للمحافظين. لكن صوتي، وكل ما أستطيع التأثير عليه من أصوات، من الصعب أيضاً أن يكون عاملاً في الإتيان بستارمر إلى الحكم رغم الفارق الواضح في استطلاعات الرأي الذي يجعل العمال متقدماً على المحافظين.
لن يذهب صوتي للعمال، ليس بسبب موقف ستارمر وقيادة الحزب المؤيدة للعدوان والمجازر في فلسطين فحسب. أو بمعنى آخر ليس على منوال الأصوات الاحتجاجية التي أدت إلى فوز جورج غالاواي. إنما السبب الأهم هو أن العمال بقيادة ستارمر ستكون أسوأ لبريطانيا حتى من حزب المحافظين الحاكم الذي قاد البلاد للخروج من أوروبا، وفشل في إدارة الاقتصاد حتى جعل مستوى معيشة البريطانيين أدنى كثيراً من نظرائهم في الدول المماثلة.
فحزب العمال المعارض ليس لديه الحلول لأي من قضايا الاقتصاد البريطاني، حتى وإن كسب أصوات كثيرين من الناخبين بسبب فشل الحكومة اقتصادياً. ثم إن ستارمر نفسه هو نموذج لكل التردي في السياسة الرسمية البريطانية منذ كان على رأس الادعاء العام في البلاد، وسجله في العمل العام لا يختلف عن كثير من رموز حزب المحافظين المتهمين بالفساد.
إذا كان حزب المحافظين الحاكم يوصف بأنه حزب رجال الأعمال والقطاع الخاص وحزب خفض الضرائب والإنفاق العام على الانتخابات لصالح ميزات للمستثمرين وأصحاب الثروات، فإن حزب العمال منذ فترة قيادة توني بلير نهاية تسعينيات القرن الماضي يقوم بما لا يختلف عن حزب المحافظين كثيراً. فقد كان حزب العمال هو من ألغى مجانية التعليم الجامعي، وحكومة بلير هي أول من فرض رسوماً للتعليم العالي، وذلك مثال واحد على ما ينتقد الناس المحافظين بسببه ويفعل العمال أكثر منه.
الأهم والأخطر أنه إذا كان حزب المحافظين على مدى عقد ونصف العقد في الحكم لم يتمكن من خصخصة الخدمة الصحية الوطنية في بريطانيا، فإن عمال ستارمر إذا فاز في الانتخابات وتولى السلطة هذا العام قد يكون الحزب الذي «يبيع» الخدمة الصحية للقطاع الخاص وخاصة لشركات الرعاية الصحية الأمريكية. وهذا التوقع وحده كفيل ليس فقط بألّا أصوّت للعمال، بل وأن أعمل ما في استطاعتي لعدم التصويت له من قبل غيري.
من الصعب تصوّر أن وجود العمال في السلطة سيعني تغيراً كبيراً في الأوضاع المعيشية للبريطانيين، بل ربما تسير من سيّئ إلى أسوأ. وذلك هو المعيار الأساسي للتصويت في الانتخابات. بالطبع يفقد حزب العمال قدراً معقولاً من مؤيديه التقليديين بسبب موقف قيادة الحزب من الحرب على غزة. وقد استقال عدد من النواب وأعضاء المجالس المحلية من العمال من مواقعهم في الحزب، حرصاً على عدم خسارة أصوات ناخبيهم. لكن ذلك لن يكون كافياً لمنع فوز الحزب في الانتخابات، إنما الاحتجاج على سياساته الاقتصادية المتوقعة يمكن أن يؤدّي إلى «برلمان معلق» حتى وإن فاز فيه العمال فلن يكون بالأغلبية المريحة لتشكيل الحكومة.
*
التعليقات