عبارة بليغة وردت في كتاب «رأيتُ رام الله»، الذي هو بمثابة سيرة ذاتية كتبها الشاعر الراحل مريد البرغوثي، تقول، أي العبارة، ما معناه، وليس حرفيّاً: «يمكن طمس، أو تزوير، الحقائق بلعبة لغوية بسيطة، هي البدء من ثانياً وتجاهل أولاً». بذا تصبح نتيجة فعل ما، خاصة إذا كان جُرماً، سبباً فيما يليه، وتخرج من سياق كونها ردّة فعل على أمرٍ، أو فعل، سابق لها، يراد طمسه والتستر عليه.

نحن اليوم شهود على وقائع حيّة تؤكد صحّة هذه المقولة. تغفل الأسباب وتطمس، ويجري تسليط الضوء على ردود الفعل، ناسين أن لكل فعل ردّ فعل، كما قالوا لنا في المدارس ونحن تلاميذ، وهم يشرحون لنا أول مبادئ العلوم. ليست العلوم وحدها ما يصحّ عليها «قانون» الفعل وردّ الفعل. الفكر أيضاً هو نمو اعتيادي للأشياء، كل فكرة تنبني على فكرة سابقة لها، والثانية تفضي، هي الأخرى، إلى فكرة ثالثة وهكذا دونما نهاية، فتتراكم المعرفة وتتطور وتفتح آفاقاً جديدة غير مسبوقة أو حتى متوقعة، لكن ولوجها لم يكن ممكناً لولا هذا التراكم.

عودة إلى مسألة طمس الحقائق، أو تلفيقها، ونلاحظ أنها المهمة، أو جانب من المهمة، التي تضطلع بها بعض أجهزة الإعلام في عصرنا الراهن، ويبلغ الأمر، أحياناً أو كثيراً، حدّ «اختلاق» وقائع لم تحدث، وتقديمها كما لو كانت حقائق، وما أكثر ما ينطلي ذلك على القطاعات الواسعة من الرأي العام الواقعة تحت تأثير ماكينات التضليل المحترفة، خاصة من المتلقين السلبيين الكسالى لما تضخّه هذه الماكينة، فيصدقون ما يقال دون أن يبذلوا جهداً في التحقق من مدى صحّته.

في رواية جورج أورويل «1984» التي نظر إليها كاستشراف لما بتنا فيه اليوم، من تزوير للحقائق، يقول أورويل على لسان بطل الرواية ونستون سميث: «الحرية هي حرية القول إن اثنين زائد اثنين تساوي أربعة. إذا سلمنا بذلك فإن البقية تتبع»، قاصداً أنه إذا انطلقنا من معلومة صحيحة فستقودنا، على الأرجح، إلى ما هو صحيح.

حين ألقي القبض على سميث لارتكابه ما وصفوه ب «جريمة فكر»، وجد نفسه مضطراً للقول إن اثنين زائد اثنين تساوي خمسة. لقد حملوه على قول ذلك قسراً، وربما وجد نفسه، من حيث أراد أم لم يرد، يُقنع نفسه بصحّة ما قيل له، والتخلي عما كان يعتبره بداهة. لم لا؟ أليست الحقائق نسبية أيضاً، كما يقال؟

والحقائق نسبية بالفعل، لكن هذه القاعدة تصحّ في نقاشات الفكر، حيث من الصعب الجزم بصحّة رأي بعينه وخطأ كل ما سواه، لكنها لا تصحّ على القيم والحقوق.