مع مطلع آذار/ مارس الجاري كانت العلاقات التركية- الروسية تشهد على محطة أخرى جديدة تدفعها قدماً إلى الأمام. وهي الاتفاق المبدئي على إنشاء مفاعل نووي ثانٍ في تركيا بعد الأول الذي أنشئ في منطقة آق قويو في محافظة مرسين.
وقد أفشى الخبر مقربون من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من دون أن يؤكده المسؤولون الأتراك. وكشف ألكسي ليهاتشيف المدير العام لمؤسسة الطاقة النووية الروسية قبل أيام أن القيادة السياسية في تركيا قد اتخذت قراراً سياسياً بإلزام روسيا إنشاء محطة نووية ثانية، وأن مكان إقامة هذه المحطة سيكون على الأرجح في منطقة سينوب التي تقع في أقصى منتصف الشمال التركي على البحر الأسود المقابل للسواحل الروسية.
وكان مفاعل آق قويو قد تم الاتفاق عليه في العام 2015 لكنه شهد وضع حجر الأساس له من قبل الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في 3 نيسان/ إبريل 2018. وتولت شركة روزاتوم التابعة للدولة الروسية إنشاء المفاعل المؤلف من أربع وحدات تشغيل. وعشية الانتخابات الرئاسية في أيار/مايو الماضي تم تزويد المفاعل للمرة الأولى بالوقود النووي على أن يبدأ تشغيل الوحدة الأولى في العام الجاري 2024، ويتوقع أن يكتمل تشغيل جميع الوحدات في العام 2027 على أن يبلغ مجموع الإنتاج الكهربائي لكل الوحدات حوالي 4500 ميغاوات.
وكان من الواضح أن توقيت تزويد المفاعل بالوقود النووي كان لغايات انتخابية حيث إن بوتين كان من أشد الداعمين لإعادة انتخاب أردوغان رئيساً لولاية جديدة في حين كان الغرب وفي رأسه الولايات المتحدة ورئيسها جو بايدن من الداعين لإسقاط أردوغان. واليوم فإن التسريبات الروسية قد يكون هدفها أن تصادف عشية الانتخابات البلدية التي ستجري في تركيا في نهاية الشهر الحالي ويعوّل عليها كثيراً أردوغان لاستعادة مدينتي اسطنبول وأنقرة من يد المعارضة.
وقد أتى الاتفاق العملي على مفاعل آق قويو في سياق التقارب في العلاقات بين أنقرة وموسكو بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضد أردوغان في 15 تموز/يوليو 2016 والتي اتُّهم الغرب والولايات المتحدة بالوقوف وراءها. وتلا تلك المحاولة الانقلابية بدء مرحلة استثنائية من التعاون الوثيق بين روسيا وتركيا كان في رأس ثمارها المباشرة التدخل التركي في سوريا واحتلال أجزاء من الأراضي السورية بضوء أخضر روسي. ومن ثم الاتفاق على مسألتين في غاية الأهمية وهي تزويد روسيا لتركيا بمنظومة الدفاع الجوي «إس 400» وإنشاء مفاعل نووي. وكان هذا بداية توتر شديد في العلاقات بين أنقرة وواشنطن وتلاه عقوبات أمريكية على تركيا وإخراجها من برنامج إنتاج طائرة «إف 35» الحربية المتطورة وتهديدها في حال أقدمت على تشغيل صواريخ «إس 400». بل إن البرلمان الأوروبي أوصى بوقف محادثات العضوية مع تركيا وطالب أنقرة بالتخلي عن مشروع المفاعل النووي.
غير أن أردوغان رفض الإملاءات الغربية بشأن «إس 400» كما بشأن المفاعل النووي. وبررت أنقرة تعاونها مع روسيا بأن الغرب يرفض أن يبيع أنقرة صواريخ «باتريوت» وأي مقاتلات حديثة، ولذا كان التعاون مع روسيا وفي سياقه إنشاء مفاعل نووي.
يمكن القول إن التوجه التركي صوب الشرق كان بسبب إصرار الغرب على إبقاء تركيا دولة مرتبطة بالصناعات الغربية ومنعها من التقدم نحو امتلاك صناعة محلية مستقلة ولا سيما في المجال العسكري. كما إن تركيا تجد أن تنويع خياراتها الاستراتيجية، في ظل الرفض الأوروبي للعضوية الأوروبية، يخدم المصالح الاستراتيجية التركية خصوصاً أن الغرب لا ينظر إلى تركيا إلا من زاوية أنها مجرد مستودع للجنود يمد حلف شمال الأطلسي بجنود مستعدين للموت في خدمة مصالح غربية في النهاية.
تسريب احتمال توقيع اتفاق على مفاعل سينوب الجديد يأتي بالتوازن مع احتمال زيارة لبوتين إلى تركيا ليكون التوقيع على مفاعل سينوب درة الزيارة المحتملة. وما يشجع تركيا على التوقيع، فضلاً عن أن كلفة الالتزام الروسي أقل بكثير مما يقترحه الغرب، هو تنويع تركيا لخياراتها الاستراتيجية والتحرر أكثر من الضغوط الغربية على تركيا.
وتركيا تعول كثيراً على الطاقة المنتجة نووياً، خصوصاً أن معظم استهلاكها هو من النفط والغاز المستورد، وبالتالي فإن فاتورة الطاقة في تركيا عالية جداً وإنتاج الطاقة النووية سيساهم في خفض هذه الكلفة.
ويرى المعارضون للتعاون مع روسيا أن ارتباط تركيا الشديد بالغاز الطبيعي الروسي والآن الارتباط بها بصورة أكبر في مجال الطاقة النووية هو أمر يحتاج إلى مناقشة من زاوية المصلحة القومية العليا. ويرى بعض الخبراء أنه مع عدم الاكتمال النهائي لمفاعل آق قويو واستخلاص الدروس من تجربته فإن الدخول في اتفاق لإنشاء مفاعل نووي ثانٍ وبكلفة لا تقل عن 25 مليار دولار، لا يبدو أنها خطوة عاقلة وحكيمة. ودعا هؤلاء الخبراء إلى التنسيق الكامل مع وكالة الطاقة الذرية الدولية في أي مشروع لبناء مفاعل نووي جديد.
في المحصلة فإن تعزيز التقارب التركي – الروسي بإنشاء مفاعل نووي ثانٍ لن يمر في الغرب مرور الكرام وسيترك ندوباً إضافية في العلاقة التركية – الغربية على الرغم من كل محاولات إصلاح ذات البين في الآونة الأخيرة.
التعليقات