من المؤكد أن ما يميز أي دولة أدبياً وحضارياً هو ما تتميز به حركتها الفنية من قوة وانتشار، والحركة الفنية هي مؤشر قوي لما تتمتع به أي دولة من إرث ثقافي عريق، يبرز أصالتها ويعكس فنها وأدبها وقدرتها على صهر الثقافات التي مرت عليها، وبقدر ما تسعى الدول لتحسين اقتصادها وتطوير مواردها الطبيعية وتوطين الصناعات المختلفة بها، تسعى لتبني منهج ثري وفعّال لتطوير الحركة الفنية بها والتحوّل لعاصمة للفن والأدب والثقافة.

الحركات الفنية على اختلافها تمثل قوة ناعمة لأي دولة، مثلها مثل القطاع الرياضي والفعاليات الثقافية الأخرى بأنواعها المختلفة، والقوة الناعمة لها القدرة على نشر الأفكار الإيجابية ومحاربة قوى التطرف الفكري، فالفن هو سلاح فعّال قادر على استئصال قوى الشر والتحذير منها، فالأعمال الفنية تدخل كل بيت وتخاطب كافة الأعمار، ولذلك تعول الكثير من الدول على تطوير قطاعها الثقافي والانتشار محلياً وإقليمياً لنشر ثقافتها وتوجهاتها.

من المؤكد أن الفنانين بكافة المجالات الثقافية هم واجهة أي دولة وسفراؤها لدول العالم المختلفة، ولهذا تهتم الكثير من الدول بالإنتاج الفني ودعمه ليعكس الطبيعة الشخصية لشعبها، ولتنشيطها سياحياً من خلال نشر إرثها الثقافي من خلال الأعمال الفنية، حيث تتيح الأعمال الفنية التعرّف على طبيعة الشعوب وثقافتها وحضارتها من خلال متابعة أعمالها الفنية، والتي تعكس بطبيعة الحال البيئة التي نشأت فيها والمجتمع الذي تسعى لتجسيده.

ولعل أحد أهم عوامل الجذب السياحية التي تستقطب السيّاح من كافة أرجاء العالم هي الفعاليات الفنية، فالبرامج السياحية للكثير من السيّاح تتضمن زيارة مواقع التصوير ومدن الإنتاج السينمائي، ومن المعروف أن الدول التي لا تُعنى بتطوير ودعم قطاعها الثقافي تكاد تكون مغيبة عن العالم، فلا أحد يعرفها ولا يرغب حتى في السفر إليها، فالفن بإمكانه إبراز أجمل ما تتسم به الدولة من بيئة طبيعية وجمال حقيقي خلاب، كما أن شعوب الدول الأخرى تتعرف من خلال الفنون على مدى رقي عادات وتقاليد دولة ما.

تدعم الكثير من الحكومات الاستثمارات الفنية بقوة، حيث تتوسع في تطوير البنى التحتية الفنية كالمسارح ودور السينما والأوبرا وغيرها، كما نجدها تهتم بتنشيط القطاع الفني فتكرم رموزه ليتمكن من الاستمرار في العطاء، ولعل الولايات المتحدة الأمريكية تعد المثال الأكثر وضوحاً على تبني هذه الرؤية، فصناعة السينما الأمريكية هي إحدى الصناعات الجوهرية التي تعتمد عليها الدولة، جنباً إلى جنب مع الصناعات العسكرية وصناعة السيارات وأنواع الصناعات الأخرى التي تتميز بها كالتكنولوجيا وغيرها، وتعد مدينة هوليوود نقطة جذب سياحي لا تضاهى بين بقية دول العالم، وقد قمت بزيارتها شخصياً، فهي مدينة سياحية متكاملة المرافق متاحة للزائرين من كافة أنحاء العالم، وتجاورها العديد من المحال التجارية والنوادي لتمثل بذلك أحد أهم المناطق السياحية الأمريكية التي تجتذب الملايين من السياح سنوياً.

حذت الكثير من دول العالم حذو الولايات المتحدة واهتمت بتطوير صناعة الفن بها مثل بوليوود بالهند، ومنذ أسابيع معدودة تم الإعلان عن مشروع وسط جدة كأحدث المشاريع التطويرية المعنية بتعزيز مكانة المملكة وتحويلها لقبلة ثقافية مميزة في منطقة الشرق الأوسط، وهو مشروع عملاق سيتم من خلاله إنشاء أربعة معالم سياحية استثنائية تتمثل في تأسيس دار أوبرا ومتحف واستاد رياضي وأحواض مائية وذلك وفقاً لأحدث المعايير العالمية، وهو ما يعكس بطبيعة الحال الجهود الحثيثة والثرية التي تبذلها الدولة لدعم وتطوير القطاع السياحي والرياضي والثقافي والترفيهي.

خلال الأعوام القليلة الماضية ومنذ بدء تنفيذ رؤية 2030 بدأ القطاع السياحي بالمملكة في الانتعاش على نحو ملحوظ، منعكساً في زيادة الإيرادات السياحية والتي كانت نتيجة لزيادة عدد السيّاح على نحو غير مسبوق، ولا شك أن اهتمام الدولة بتأسيس بنية تحتية قوية للقطاع الفني سيزيد من تطوير الحركة السياحية بالمملكة وسيسهم في تعريف شعوب العالم بها وبشعبها وبحضارتها وثقافتها، وقد لاحظت الازدياد الكبير في عدد الأفلام والمسلسلات السعودية المعروضة على المنصات العالمية مثل نتفليكس وشاهد وغيرهما، وهو ما يعني تطور الحركة الفنية بالمملكة بشكل مضطرد، في تطور حديث لهذا القطاع الثقافي الذي غاب عن المشهد بسبب انتشار الأفكار المتطرفة وما صاحبها من ضعف للحركة الفنية بالمملكة دون مبرر.